بلغني أن بعض أهل العلم والفضل يضعف حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه: “كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعة الطعام من النياحة”، وهو حديث لطالما احتججنا به مقلدين في ذلك للشيخ الألباني رحمه الله، فاستفزني ما سمعت من تضعيف هذا الحديث، لإنجاز هذا البحث الحديثي الفقهي المتواضع، فأقول وبالله التوفيق:
أخرج ابن ماجه (1612)، والطبراني في الكبير (2/307) من طرق عن هشيم بن بشير عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: “كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعة الطعام من النياحة”.
صححه البوصيري في مصباح الزجاجة (592)، والألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1308)، والنووي في المجموع (5/290)، وغيرهم.
ولكن للحديث علتان:
– الأولى: هشيم مدلس مشهور بالتدليس وقد عنعن في جميع الطرق، وقد تابعه “نصر بن باب” عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعه الطعام بعد دفنه من النياحة. أخرجه أحمد (2/204)، ولكن “نصر بن باب”، قال فيه البخاري: يرمونه بالكذب، وقال بن معين: ليس حديثه بشيء، وقال أبو حاتم: متروك الحديث (تعجيل المنفعة 1102)، فلا عبرة بمتابعته.
– الثانية: مخالفة متنه للرواية الصحيحة عن إسماعيل بن أبي خالد، فقد قال الطبراني في المعجم الكبير (2/307) قال: حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني حدثنا سعيد بن سليمان عن عباد بن العوام عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: قال جرير بن عبد الله: “يعددون الميت أو قال أهل الميت بعدما يدفن؟ شك إسماعيل؛ قلت: نعم. قال: كنا نعدها النياحة”.
وهذا إسناد صحيح. أحمد بن يحيى شيخ الطبراني ثقة (تاريخ بغداد 5/212)، وأما سعيد بن سليمان وعباد بن العوام فهما ثقتان من رجال الصحيحين كما في “التهذيب”.
ومعنى يعددون الميت: أي يذكرون محاسنه. فالرواية الصحيحة عن إسماعيل بن خالد هي هذه وليس فيها ذكر الطعام، ولا الاجتماع عند أهل الميت، وإنما فيها التعديد؛ ولهذا قال الإمام أحمد حين سأله أبو داود عن حديث جرير: (كنا نعد الاجتماع عند أهل الميت وصنعة الطعام لهم من أمر الجاهلية): “زعموا أنه سمعه من شريك. قال أحمد: وما أرى لهذا الحديث أصل (مسائل الإمام أحمد ص:388).
يعني: ليس له أصل صحيح، أي: إسناد صحيح.
وشريك بن عبد الله القاضي ضعيف، تغير حفظه لما ولي القضاء (التقريب).
فالأثر لا يصح عن جرير رضي الله عنه، ولكن هذا لا يعني جواز الاجتماع عند أهل الميت على طعام يصنعونه، فقد تتابع السلف، على إنكار ذلك، وهذه بعض النقول عنهم في ذلك:
– قال ابن أبي شيبة في مصنفه (11349) قال: حدثنا وكيع عن مالك بن مغول عن طلحة قال: قدم جرير على عمر فقال: هل يناح قبلكم على الميت؟ قال: لا، قال: فهل تجتمع النساء عندكم على الميت ويطعم الطعام؟ قال: نعم فقال تلك النياحة . رجاله ثقات أثبات إلا أن طلحة –وهو ابن مصرف- لم يدرك جريرا.
– وقال ابن أبي شيبة (11346): حدثنا وكيع بن الجراح عن سفيان عن هلال بن خباب عن أبي البختري (تابعي جليل من علماء الكوفة وفقهائها) قال: الطعام على الميت من أمر الجاهلية والنوح من أمر الجاهلية. إسناده صحيح.
– وقال ابن أبي شيبة (11348): حدثنا معن بن عيسى عن ثابت بن قيس قال: أدركت عمر بن عبد العزيز يمنع أهل الميت الجماعات يقول: تُرْزَون وتُغرمون. إسناده صحيح.
أي: حين يجتمع الناس عند أهل الميت، فإنهم يجمعون لهم بين الرزية أي المصيبة، والغرامة أي: ما يتكلفونه لأجلهم من إطعام الطعام.
ولهذا فقد اتفقت أقوال أصحاب المذاهب الأربعة على إنكار الاجتماع على الطعام عند أهل الميت، وهذه بعض النقول عن كل مذهب :
• المذهب المالكي:
– قال العلامة الحطاب في شرحه على مختصر خليل: “…أما إصلاح أهل الميت طعاما، وجمع الناس عليه؛ فقد كرهه جماعة، وعدوه من البدع؛ لأنه لم ينقل فيه شيء، وليس ذلك موضع الولائم” (مواهب الجليل 3/37).
– وقال العلامة الشيخ محمد عليش في شرحه على مختصر خليل: “…وأما الاجتماع على طعام بيت الميت فبدعة مكروهة، إن لم يكن في الورثة صغير، وإلا فهو حرام، ومن الضلال الفظيع، والمنكر الشنيع، والشماتة البينة، والحماقة غير الهينة، تعليق الثريات، وإدامة القهوات في بيوت الأموات، والاجتماع فيها للحكايات، وتضييع الأوقات في المنهيات، مع المباهاة والمفاخرات، ولا يتفكرون فيمن دفنوه في التراب تحت الأقدام، ووضعوه في بيت الظلام والهوام، ولا في وحشته وضمته، وهول السؤال، ولا فيما انتهى إليه الحال من الروح والريحان، والنعيم، أو الضرب بمقمع الحديد، والاشتعال بنار الجحيم، ولو نزل عليهم كتاب بانتهاء الموت، وأنهم مخلدون بعده، لقلنا إنما يفعلونه فرحا بذلك، ولكن الهوى أعماهم وأصمهم، وإن سئلوا عن ذلك؛ أجابوا باتباع العادة، والمباهاة، ومحمدة الناس، والزيادة، فهل في ذلك خير؟! كلا، بل هو شر وخسران وضير” (منح الجليل 1/300).
– وقال القرطبي: “الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعهم الطعام، والمبيت عندهم، كل ذلك من فعل الجاهلية، قال: ونحو منه الطعام الذي يصطنعه أهل الميت في اليوم السابع، ويجتمع له الناس يريدون به القربة والترحم عليه، وهذا لم يكن فيما تقدم، ولا ينبغي للمسلمين أن يقتدوا بأهل الكفر، وينهى كل إنسان أهله عن الحضور لمثل هذا، وشبهه من لطم الخدود، وشق الجيوب، واستماع النوح، وذلك الطعام الذي يصنعه أهل الميت كما ذكر، فيجتمع عليه الرجال والنساء من فعل قوم لا خلاق لهم” (فيض القدير 1/682).
• المذهب الحنفي:
قال ابن الهمام: “ويكره اتخاذ الضيافة من الطعام من أهل الميت لأنه شرع في السرور لا في الشرور، وهي بدعة مستقبحة” فتح القدير 2/142.
• المذهب الشافعي:
– قال النووي:” قال صاحب الشامل وغيره: وأما إصلاح أهل الميت طعاما، وجمع الناس عليه، فلم ينقل فيه شيء، وهو بدعة غير مستحبة”. (المجموع 5/290).
• المذهب الحنبلي:
– قال ابن قدامة: “فأما صنع أهل الميت طعاما للناس فمكروه لأن فيه زيادة على مصيبتهم وشغلا لهم إلى شغلهم وتشبها بصنع أهل الجاهلية…” (المغني 2/413).
خلاصة البحث:
يستفاد مما سبق أن الاجتماع عند أهل الميت على طعام يصنعونه بدعة مستقبحة، وذلك لأمور:
1- أنه من عمل أهل الجاهلية كما ثبت عن التابعي الجليل أبي البختري.
2- أن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز كان يمنع منه، وقد أمرنا باتباع سنة الخلفاء الراشدين.
3- أن إطعام الطعام إنما يشرع عند السرور لا عند الشرور، وذلك من باب التحدث بنعمة الله، فيكون جمع الناس وإطعامهم عند حدوث المصيبة من باب التحدث بالمصيبة للناس، وكأن صانع ذلك يشكو ربه إلى الناس لما أنزل به من المصيبة، وذلك ينافي الصبر الجميل، والذي فسره العلماء بالصبر الذي لا شكوى معه، ولعله لهذا المعنى عُدَّ صنع أهل الميت للطعام والاجتماع عليه من النياحة؛ لاجتماعه معها في عدم الصبر وإظهار الجزع والتشكي.
4- أن في هذا الفعل شغل لأهل الميت وتكليف بالغ لهم، مع ما هم فيه من هَمِّ المصيبة.
5- أن هذا الفعل معارض تماما لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حين استشهد جعفر ابن أبي طالب: “اصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد أتاهم أمر يشغلهم، أو أتاهم ما يشغلهم” (أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وحسنه الترمذي والألباني).
6- أن هذا الفعل يفتح باب الرياء والمباهاة بين الناس، في وقت هم أحوج ما يكونون إلى الاعتبار بالموت والاتعاظ بها، وقد تفاخر الناس في زماننا حتى صرت لا تكاد تميز بين العزاء والعرس.
7- أن بعض الناس ينفقون طعام العزاء من تركة الميت بغير رضا الورثة، وربما يكون فيهم يتامى، فيقعون في أكل أموال اليتامى ظلما، وهو من السبع الموبقات.
فهذه سبعة وجوه كل واحد منها يكفي للزجر عن هذه البدعة القبيحة، مع ما تقدم نقله عن السلف، وعن أصحاب المذاهب، فهل نحن منتهون؟!