المدرس والسيرورة التربوية: كفايات المدرس بين التراث الإسلامي والمتطلبات المعاصرة مولاي المصطفى البرجاوي باحث في ديداكتيك العلوم الاجتماعية والتواصل كلية علوم التربية الرباط

على الرغم من أن لكل مجتمع من المجتمعات، فكره التربوي الخاص به وأن ما يصلح لمجتمع لا يصلح لآخر، إلا أن المتفحص لمناهجنا التربوية في العالم العربي يجدها -في كثير من جوانبها- متأثرة بالفكر الغربي ، إن على مستوى التوجهات التربوية أو على مستوى المواضيع والمضامين.. مما يطرح أكثر من تساؤل كيف يمكن لأمة أن تتقدم ولازالت عالة على غيرها حتى في نظمها التربوية؟
أم أن المغلوب مولع بتقليد الغالب على تعبير المؤرخ المغربي الكبير ابن خلدون؟…
يمثل الفكر التربوي الإطار النظري، لما يحتاجه المجتمع في بناء نظامه وبرامجه التربوية ووضع أسسها وقواعدها، بل أكثر من هذا إلى أن النمو الحضاري والنمو الفكري يسيران جنباً إلى جنب، وما الفكر التربوي إلاّ نتاج حضارة عريضة، امتدت على مدار أربعة عشر قرناً من الزمان وقد استمد قوته وحيويته من الدين واستطاع الفكر التربوي الإسلامي، أن ينتج الإنسان الصالح القادر على التكيف مع واقعه .

* مصطلحات الدراسة:
– معنى التربية لغة واصطلاحا:
لغة جاء في لسان العرب لابن منظور: “ربا يربو بمعنى زاد ونما”، وفي القرآن الكريم، قال تعالى: “فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ” (الحج:5)، أي نمت وازدادت، ورباه بمعنى أنشأه، ونمّى قواه الجسدية والعقلية والخلقية. والتربية، بمعناها الواسع تعني كل عملية تساعد على تشكيل عقل الفرد وجسمه وخلقه باستثناء ما قد يتدخل فيه من عمليات تكوينية أو وراثية، وبمعناها الضيق تعني غرس المعلومات والمهارات المعرفية من خلال مؤسسات أنشئت لهذا الغرض كالمدارس، كذلك فإن تعريف التربية يختلف باختلاف وجهات النظر ويتعدد حسب الجوانب والمجالات المؤثرة فيها والمتأثرة بها.
واصطلاحا، فالتربية عموما تعتبر عملية شاملة، تتناول الإنسان من جميع جوانبه النفسية والعقلية والعاطفية والشخصية والسلوكية وطريقة تفكيره وأسلوبه في الحياة، وتعامله مع الآخرين، كذلك تناوله في البيت والمدرسة وفي كل مكان يكون فيه، وللتربية مفاهيم فردية، واجتماعية، ومثالية .
– مفهوم البيدا غوجيا
لقد ورد مصطلح البيداغوجيا في معجم علوم التربية: بأنها لفظ عام ينطبق على كل ماله ارتباط بالعلاقة القائمة بين المدرس والتلميذ بغرض تعليم أو تربية الطفل أو الراشد وبالانطلاق من مستويات مختلفة .
– الفكر التربوي.. إشكالية المصطلح
ونظرا لإشكالية المصطلح من زواياه المختلفة، أحببت -دفعا لكل لبس- عرض هذا التعريف، فهو عبارة عن جزء من فكر إنساني مبدع، يتسم بالديناميكية والتطور المستمر في ميدان التربية ويستند إلى تاريخ المجتمع وفلسفته وثقافته وصفاته وحاجاته .
* تعريف الكفايات في مجال الثقافة العربية- الاسلامية:
في هذا السياق أقتصر فقط على تعريف العلامة ابن خلدون:
يقول عبد الرحمان بن خلدون: «الحذق في التعليم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله، وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلا، وهذه الملكة هي في غير الفهم والوعي، ولأنا نجد فهم المسألة الواحدة من الفن الواحد ووعيها مشتركا بين من شدا في ذلك الفن … والملكة إنما هي للعالم أو الشادي في الفنون دون من سواهما».
* كفايات المدرس في الفكر التربوي الإسلامي
كثيرا ما يتم الحديث وفق المقاربات البيداغوجية عن ما يسمى بالمثلث الديداكتيكي (المدرس، المتعلم، والكتاب المدرسي)، كمنظومة متكاملة لإنجاح التعليم، فالتلميذ يعد قطب ومحور العملية التربوية والتعليمية خاصة، فهو الذي يتلقى المعلومات والمعارف و يتعلمها، أما المدرس -الذي حرصت أطراف متعددة حاليا على تشويه سمعته تنكيتا وإعلاميا- “بطبعه قيادة فكرية، فهو بحكم عمله ومهنته وتخصصه واتصالاته وعلاقاته قائدا بالطبيعة أو مستعدا للقيادة بالطبيعة… لأن رسالته لا تقف عند حد العلم وتعليمه، وإنما هي تتعداهما إلى غيرهما، كالقيادة” . لكن في هذه المنطقة البحثية، سأركز على كفايات المدرس في الفكر التربوي الإسلامي.
وحسبنا أن شوقي لم يبالغ كثيراً حينما قال “كاد المعلم أن يكون رسولاً”؛ لإدراكه التام لحقيقة الرسالة الإنسانية المقدسة الملقاة على عاتقه والمكانة الاجتماعية التي حظي بها كمصلح ومرشد ومؤتمن على فلذات الأكباد.
خاصة وأن المرحلة العمرية للمتعلم في طفولته؛ تمثل الأفق الأرحب للتفتح على المستقبل بوعي متقد لقول ابن خلدون: “إن التعليم في الصغر أشد رسوخاً وهو أصل لما بعده”( ).
إن نجاح هذه الرسالة مرهون بقدرة المعلم على غرس التربية الأخلاقية والثقافية والعلمية في نفوس الناشئة.. إذن ما هي الكفايات اللازمة لغرس هذه التربية بشتى ضروبها؟
تنقسم كفايات المدرس-حسب ما جاء في التراث الإسلامي- إلى كفايات متعددة لكن أقف في هذه الورقة عند الكفايات الأخلاقية والعلمية والمهنية.
1-الكفايات الأخلاقية: ومن الكفايات الأخلاقية التي يجب توفرها في المعلم المسلم:
أ- الإخلاص في العمل: إن اتقان العمل لا يكون إلا بالإخلاص والتقوى .وشعور المعلم بأن ما يقوم به هو رسالة سامية يستحق عليها الأجر والثواب من الله تعالى يدفعه للعمل بفاعلية وكفاءة وإتقان امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم:” إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”.
ب-القدوة: يظل هذا العنصر من أهم ركائز التربية في بعدها الإسلامي، فالمعلم لابد أن يمثل النموذج المحتذى والمقتدى، خلقا وعلما وتعليما، ففي القرآن الكريم حرص شديد على تبني هذه القيم، دون الإخلال بها، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ). ولله در الشاعر إذ يقول:
لا تنه عن خلق و تأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
لذلك فالإسلام يحث على أعظم الوسائل نجاحاً في التربية وأجداها في توصيل المبادئ والقيم وهي القدوة… وهذا نلمسه في منظومة حياتنا، فلو سألت أحد المتعلمين، ماذا تريد أن تصبح في المستقبل، لرد عليك إما يريد أن يكون أستاذا أو طبيبا أو مهندسا، وذلك تبعا للقدوة طبعا..
ج- حب المتعلمين وحسن التعامل معهم: بحكم تعامل المدرس اليومي مع متعلميه كان لزاما عليه أن يكون قريبا منهم، وأن يتفهم عصرهم وعقليتهم كما قال علي بن أبن أبي طالب رضي الله: “علموا أطفالكم لزمانهم؛ فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم”، كما أن حبيبنا صلى الله عليه وسلم كان القدوة والمثال في التعليم والتعلم، في التعامل الرائع والرقراق مع الأطفال قبل أن تظهر النظريات الغربية التي تحاول فهم شخصية المتعلم السيكولوجية والنمائية (بياجي…).
فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «قبَّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «من لا يرحم لا يرحم»، وفي حديث آخر: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا» (رواه أبو داود والترمذي)، فالمدرس يجب أن يكون رحيما بتلاميذه، فذلك أدعى أن يكون محبوبا ومتفاعلا مع تلاميذ بل يقبلون على تعلم ما يدرسه لهم.
وللبحث بقية نرجؤها إلى العدد القادم بحول الله تعالى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *