ومن العلمانيين من يعجبك قوله في “الإسلام المغربي” عبد المغيث موحد

في مرحلة ما من زمن المواجهة كان القلم العلماني بوهم أطروحته يناور لتسويق فكرة تاريخية النص الإسلامي، وأنه كان ابتسارا ثقافيا دعت له مرحلة معينة في بيئة معينة تحت ضغط حاجات تكتلات جماعية لها مصالح معينة.
بل نجد هذا القلم في هذه المرحلة من المواجهة قد كرّ بعيدا وذلك حينما أخرج إلى عكاظ سوقه فكرة بشرية مصدرنا الأول في التشريع الإسلامي، وكان هذا الخروج -وإن شئت فقل إخراجا- مصحوبا بجملة من المقاصد الاستشرافية الخبيثة على رأسها اتهام هذا الإبداع الإنساني على حد زعمهم في مرحلة متقدمة من سيرورته التاريخية بالشيخوخة والتهافت أمام وابل النظريات المعاصرة والتي أفرزها العقل الحداثي الذي استطاع أن يواجه تراث الشروحات التي حاول أصحابها من أهل اللغة والتفسير إنقاذ ماء وجه هذا الذي شاخ وأصبح في حاجة إلى إجراء عمليات تجميلية وأخرى استئصالية لشد التجاعيد التاريخية في ملامح نصوصه الدينية.
والواقع أن أي إطلالة ولو بمجهود يرى بعين الإجمال إلى هذا المنتوج الاعتسافي الذي راكمه العقل العلماني في هذه المرحلة من تاريخ المواجهة يقف على جرأة هذه السخائم المناوئة وأنها لم تنافق في بغضها ولم تداهن في عدائها للإسلام بل لم تتنازل عن حظها في الوجود ولم تنزل عن عتبة “نكون أو لا نكون”.
ولسنا هنا مطالبين ولا مدفوعين لنحكي هزيمة أصحاب هذا الاتجاه وذهاب سيرتهم جفاء؛ بقدر ما نرى اليوم أن أي تفعيل للمقارنة بين هؤلاء الذين ذهبوا إلى جبانة النسيان التاريخي؛ وهؤلاء الذين نراهم اليوم يريدون النفخ في رماد بؤرة موقد سكان تلك الجبانة السالف ذكرها؛ ولكنه نفخ بنفس أصابته وتخللت ريقه ولعابه لوثة النفاق والمداهنة تارة، والمكر والتكالب تارة أخرى.
هؤلاء الذين تسفلت محابرهم قبل منابرهم في نقيصة الفرية والبهتان هو تفعيل كفيل بفضح هذا الفكر الحاقد المارق وهو تفعيل كفيل بأن يبشر هؤلاء بخيبة المسعى ومآلية الخسران المبين والتهافت الحزين، وهو كذلك تفعيل نرى أنه كفيل بأن يعطي لحراس التخوم الشرعية ولكل حامل لهمّ أمته؛ الغيور على محارم دينه؛ المبتهل إلى ربه؛ هامشا من الراحة النفسية والاطمئنان الشعوري الذي نال منه كل منسلخ لاهث وراء أمنية تشييع هذا الدين العظيم إلى لحد السلو والنسيان.
وكم نحن في حاجة إلى إرجاع فيء هذا الاطمئنان وأنفال هذه الراحة النفسية، ونحن اليوم نواجه غارات وقاذفات هؤلاء الذين صار لهم الظهور ودخلت جيوبهم وحاوياتهم المهور الغربية والمساعدات الأجنبية والحضانات الإقليمية؛ لتكون لهم في دولة الأيام صولة على الدين وجولة على التدين.
وهكذا وبينما كانت خرجات الجيل الأول خرجات شابتها الجرأة والاندفاع الذي ساندته الآلة الفلسفية والنظريات الغربية التي سحق بها أصحابها تغطرس الكنيسة وتجاوزات رجالاتها؛ نرى اليوم هذا الجيل الذي تبنى إن صح التعبير علمانية الخبز وحداثة الارتزاق والتدين الحربائي قد سخر قلمه وتماهى مع المجهود الهيكلي للإصلاح الديني من أجل المساهمة في خلق الخصوصية الدينية ذات الانجذاب الجغرافي النافد التأثير والتحجير.
فنراه في هذا التماهي والتسخير قد أشهر ورقة النقد الحمراء في وجه الفهم السليم والطرح الحكيم والتركة البيضاء التي وصلتنا نقية صفية لا يشوبها نقصان ولا يعتسفها طغيان، فتواتر منه النبز واللمز وأطلق عضلات فكه وحركات سبابته وإبهامه لحبر الكذب وافتعال ضجة التطرف والإرهاب والظلامية والانغلاق وتعظيم كل خطيئة قد تأتي بها عملية الانتقال من النص إلى فضاء ممارسته، في محاولة لسحب هذه الخطايا لا على الشياطين بل على ملك سليمان عليه السلام.
وبالمقابل نراه؛ وهو الذي بلونا خبره فوجدناه لا يرقب في الدين إلاّ ولا في أهله ذمة؛ قد انخرط في عملية المكاء والتصدية الداعمة والرامزة بعين الرضا والقبول لعملية التجديد والذي يعيد الاعتبار للدين الجغرافي والخصوصية الفارقة على حساب عملية رد الخصوصية والتعصب المذهبي والعقدي والسلوكي إلى الاعتصام بحبل الله اعتصاما وملاذا جماعيا لا يعير للنعرات الحدودية المفتعلة وعربدات الأقليات المستكبرة أي اهتمام من شأنه أن يجعل القصي عرضة لاعتداء الذئاب المتربصة.
وهو في هذا التعاطي الحائف والانحياز الزائف لا زال يجدد في ترسانة اصطلاحه ولغة تكالبه، وقد كان من أخريات ابتكاره في هذا المجال المواجهاتي استعماله لاصطلاح “التهريب الديني” في التفاتة منه نابزة للوافد المشرقي أو على حد تعبيره الوافد الوهابي أو “السلفي المتطرف” في مقابل منافحته بالنفس والنفيس على التراث الديني الوطني الذي بات يعرف في الذهن الرسمي بخلطة مالك والسالك والأشعري، وهي المحددات الثلاث التي بات يتشكل منها الإسلام المغربي بل هي المحددات التي تفتقت عليها ليس ذهنية الفقيه المغربي فقط بل العلماني المغربي الذي لا يعرف من الإسلام إلا اسمه ومن الدين إلا رسمه.
عجيب كل العجب أن نرى الأقلام التي كانت ولا تزال على مقاس الأمر والمصلحة قد حبرت الإلحاد، والأفمام التي ولغت من ماء البهتان الآسن نراها تدافع عن التصوف والعقائد الكلامية والفقه المالكي الذي لا تجيد على وفقه التبصر في باب الطهارة وأقسام المياه وضوابط التخلي والنجاسات، بل ولا تقيم لشرع الله قدسية في حياتها اليومية. وإنها وباختصار واختزال مضبوط سخائم قد كانت ولا تزال علاقتها بالله على مشارف الصفر، مشارف تدفعنا إلا أن نكرر الغرابة والتعجب إذا نحن علمنا عين اليقين وحقه أنها وفي الوقت الذي لا تتوانى أن تطارد فيه أولياء الله على الحق والصدق وهم ينهلون من معين الحياة الطيبة مطاردة مصبوغة بكل جفاء وغلظة، وقدرة في الدين والدنيا نراها تدافع وبكل استماتة عن الفكر القبوري ورموز أضرحته من الأولياء والأبدال والأوتاد والأقطاب دفاعا قد ينم على ولاء ومحبة بين هؤلاء الأحياء وبين سكان تلك المشاهد والأضرحة، لكنها عند التقعيد والتفرس الإيماني يتبين وهمُ وسراب هذا الولاء وتلك المحبة، غير أنها وعلى الطرح القائل “عدو عدوي صديقي” قد تدفعها الضرورة المصلحية على أخذ الورد وشذ الرحال إلى مشايخ الصوفية والانخراط في مشاريع إقامة الموالد والطقوس الوثنية ما دام في ذلك بالمقابل إظهار للبراءة والعداء والتهارش على رواد التهريب الديني، وإن شئت أجملنا وقلنا التهريب السلفي ولا ضير مع هذه الأنباز والقوادح، فإن اللعبة قديمة والمستهدف كان أشرف وأخير وأفضل.
فلقد سارع المشركون والدعوة في مهد الغربة إلى اقتسام الرمي في رسول الله فتفرقت دماء أمانته وصدقه بين الأفمام النافثة، فرمي عليه الصلاة والسلام بالسحر والكهانة والشعر والجنون والسعي وراء كل فتنة لبتها في المجتمع الوثني الجاهلي.
فهل يا ترى أضر نبح الكلاب وعواء الذئاب سير قافلته الميمونة ومسيرته المباركة؟
وهل يا ترى أفقد رحيل تلك البعوضة التي غادرت سعف تلك النخلة توازن هذه الغضة الباسقة؟
وهل عاش نبينا غير كونه نبيا مرسلا ورحمة مهداة إلى البشرية جمعاء؟
وهل كانت الوثنيات المتجددة غير كونها إقعاد حائف وإخبات زائف؟
وهل كانت السلفية غير كونها كتاب وسنة على وفق فهم سلف الأمة؟
ثم هل كان مالك والسالك والأشعري إلا أعلام مشارقة؟
فهل يجرأ العلماني المغربي على اتهام الخصوصية الدينية المغربية بالتهريب الديني…؟
حتما لا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *