عن أي هوية يتحدثون؟ أحمد اللويزة

..أي هوية بقيت مع “الخاسر” وجماعة الخاسرين؟

وأي هوية مع مهرجانات تجمع الشواذ والسحاقيات والمدمنين الذين صار ينظر إليهم كجزء من كيان المجتمع المتحضر، تجمعات توزع فيها العوازل وتخرق فيها كل القوانين في دولة الحق والقانون بحراسة أمنية ترعى هذه الخروقات ويكفيك مهرجان “البولفار” شر دليل؟
أي خصوصية تركتها لنا أفلام المكسيك و”استوديو دوزيم” برنامج اكتشاف البطون وهز الخصور وفن الاحتكاك والعناق، يرى الأب ابنته تعانق الصديق فيعقبها بدعوة الرضى والتوفيق، إنها المهزلة ولتذهب الخصوصية إلى الحجيم.

الهوية والخصوصية والأعراف والتقاليد وكلمات أخرى أصبحت رائجة في كلام الناس اليوم، بعد أن ابتلعهم غول العولمة أو كاد، وأحس بعضهم بزوال كيانهم وأوشك التاريخ أن يمحوهم من الذاكرة، فانتفضوا يتحدثون عن الحفاظ على الهوية وحماية الخصوصية، واختلط الناعقون بالصادقين، واشتكت الهوية: لأيهم تتَّبع؟ ومن عنها يدافع؟ إذ أصبحنا أمام هويات وخصوصيات واختلط الأمر على الخاصة بله العامة.
لكن، بعد التأمل في كلام الناس -ولاسيما من يُسمع صوتهم بين الجماهير من خلال الوسائل التي سخرت لهم-وجدناهم يشوهون الهوية باسم الدفاع عنها، وأستطيع القول إننا نعيش بدون هوية مميزة، إذ تتجاذبنا تيارات طائشة كل منها أخذ جزء من هذا الشعب المغلوب على هويته، فمن تيارات التفسخ والانحلال إلى تيارات التفجير والانتحار إلى تيارات الزندقة والنفاق مرورا بتيارات الحلول والإلحاد وهلم جرا.

هل ما زالت هناك هوية أو خصوصية على أرض الواقع؟
لم يعد من المعقول الحديث عن الخصوصية المغربية وهوية الشعب التي راحت أدراج الرياح والتهمها غول العولمة الذي لم نواجهه حتى بأدنى أساليب المواجهة، وتُرك الشعب يواجه مصيره لوحده، حتى صار خالي الوفاض من مقومات الخصوصية التي كانت أولى معاول هدمها على يد من أوكل إليهم حمايتها عبر عدوان ثلاثي على القيم والأخلاق، تولى كِبْره زمرة جاؤوا من أحزاب صعدوا على أكتاف الفقراء لينضموا إلى نادي الأغنياء واستولوا على وزارات الخصوصية والهوية؛ التعليم والإعلام والثقافة، فصاغوا منا جيلا مشوه الأضلاع لا يشبه شيئا للآباء والأجداد الذين نتغنى برجولتهم وشهامتهم وصلابتهم في الدفاع عن القيم والثوابت، لقد أصبحنا أمام جيل لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، جيل سبُّ الرب أهون عنده من قتل ذبابة لأنه لم يتربَّ على تعظيم خالقه، ومن أين له ذلك؟
لم يعد سائغا اليوم الكلام على الخصوصية لأنها أصبحت أثرا بعد عين وخيالا بعد واقع تصلح للكتابة القصصية الخيالية والروايات التاريخية ليس إلا؛ وذلك بالنظر إلى ما آل إليه حال الأمة في العالم الإسلامي عموما والمغرب خصوصا من تحول رهيب على مستوى الخصوصية التي يتشدق بها في المحافل والمناسبات والصحف والمجلات…
فهل من الخصوصية المغربية هذا السيل الهادر والـ”تسونامي” الجارف للإباحية التي أتت على الأخضر واليابس ولم تترك مجالا لما تبقى من القيم التي كنا نتنسم منها عَبق الهوية الضئيل؟
هل من الهوية هذا العري الفاضح الذي أبدت معه المرأة المغربية من جسدها ما لم يكن أحد يتصوره في يوم من الأيام حتى أضحى العري في المغرب عنوان انفتاح ثقافي واجتماعي تنصح الدول الكبرى الدول الإسلامية أن تحتذي به، وصار مثارا للتعجب والانبهار من طرف أمم الأرض؟ فيا للخسارة!
هل من الخصوصية ما يقع في أرض الواقع من مظاهر المجون من عناق وزنا ولواط وطوابير البغايا اللواتي يستعمرن حدائق وشوارع وممرات وفضائح تفوح روائها بين الفينة والأخرى قادمة من خلف حيطان الفنادق والنوادي والعلب الليلية…؟
أي هوية بقيت مع “الخاسر” وجماعة الخاسرين؟ وأي هوية مع مهرجانات تجمع الشواذ والسحاقيات والمدمنين الذين صار ينظر إليهم كجزء من كيان المجتمع المتحضر، تجمعات توزع فيها العوازل وتخرق فيها كل القوانين في دولة الحق والقانون بحراسة أمنية ترعى هذه الخروقات ويكفيك مهرجان “البولفار” شر دليل؟
أي خصوصية تركتها لنا أفلام المكسيك و”استوديو دوزيم” برنامج اكتشاف البطون وهز الخصور وفن الاحتكاك والعناق، يرى الأب ابنته تعانق الصديق فيعقبها بدعوة الرضى والتوفيق، إنها المهزلة ولتذهب الخصوصية إلى الحجيم.
لا هوية مع “للاهم العروسة” التي تروج للخنا والتميع وتعليم فن الدياثة عبر الأثير بدعوى تزويج الشباب، ولو كان همهم ذاك فعلا لهان الخطب ولكنها أموال طائلة تسرف تكفي لتزويج المئات بل الآلاف، ولكنها تهون من أجل مسخ الهوية وإنتاج برنامج تمجه الطباع السليمة وتأباه العقول الراجحة، وإن كانوا في كل مرة يريدون إيهام المشاهدين أنهم لم يخرجوا عن الهوية الإسلامية في بعض “الفلاشات” البليدة.

الهوية واللباس الأفغاني!!
كل ما سبق ذكره لا يؤثر في الهوية ولا يمس خصوصية المغاربة، ولم يبق من الهوية إلا انتقاد اللباس الأفغاني أو “التشادور” الإيراني على حد زعمهم بدعوى مخالفة الخصوصية وأي خصوصية في مقابل صمتهم عن شباب سراويلهم تكاد تسقط عن خواصرهم كلها ثقوب ورقع كانت فيما مضى عنوان فقر وبؤس، لتصبح عنوان حضارة ورقي وفن، ولكنها في الحقيقة دليل مسخ للفطرة وانتكاس للهوية التي لا يتحدثون عنها حين تخرج نساء بلد الهوية والتقاليد العريقة بدون لباس؛ خصور بادية وأثداء بارزة ومكشوفة وملابس متهتكة إلى أبعد الحدود. هنا يتوقف قطار الحفاظ على الهوية لينطلق ركب الحضارة ومواكبة التقدم، كما يكف قلم الاستنكار والشجب لذهاب الخصوصية المغربية -كل لباس يخالف هواهم أفغاني، وكل حجاب رأوه فهو إيراني أو قادم من “قندهار” وإن كان كثير من حجاب اليوم فيه نظر- ليندفع قلم الحريات الشخصية والاختيار الحر حينما يتعلق الأمر بالتهتك.
إن من يلقي نظرة سريعة إلى الشارع المغربي وعادات بعض البيوت يرى من التحول اللامحمود في عادات الناس وأعرافهم والتبدل في هوياتهم وخصوصياتهم ما يطيش له الفؤاد وتحار فيه العقول؛ أسر لا تتكلم إلى الفرنسية ولا ترطن العربية إلا سهوا ليتميزوا عنك وعن الهوية، وفي نظرهم قمة الحضارة الانسلاخ حتى من اللغة التي هي آخر معاقل الخصوصية المقهورة.
وأسَرٌ أخرى تتحلق حول أفلام العهر وبرامج الرذيلة دون حياء ولا خجل وأسر تشجع أبناءها وبناتها على اتخاذ العشاق والعشيقات واستضافتهم في بيوتهم، إنها الحضارة وتبا للهوية المنبوذة في عالم الأثير والإعلام الذي أصبح يقود الشعوب، ويتحكم في رقابها ويلوي أعناقها حسب ما أراد، فلم يعد لها خيار سوى الانقياد -إلا من رحم الله- لوحش العولمة عوض الانقياد لرب العالمين.
كم يشعر المرء بالأسى والأسف حين يرى أقواما يتحدثون عن الهوية وهم مَن وأدها ولربما بدا لهم سراب الهوية يجري في البيداء فحسبوه حقيقة، حقيقة راحت وانقلب المجتمع الإسلامي المحافظ الطاهر النقي رأسا على عقب، وصارت الهوية الحقة عندهم كسكس يوم الجمعة وبخور ليلة القدر وعادات ينسبونها إلى الإسلام زورا وبهتانا ما أنزل الله بها من سلطان، أما الهوية التي وفدت علينا ولها من يُناصرها اليوم من بعض المارقين فهي فجور بكل الأشكال والألوان مما أضحى عنوان اعتزاز وافتخار عند ممسوخي الهوية حقا، يستدلون به على حيوية المجتمع وانفتاحه وقبوله للآخر بعُجره وبُجره، وأي قبول لقيم هي سقط المتاع وفتات موائد اللئام.
لم يعد من المستساغ هذا الصمت الرهيب كصمت القبور أو أشد، بعدما مسخت الخصوصية واغتيلت الهوية وشيِّعت جنازتها غير مأسوف عليها ولم تعد إلا مصطلحات يلوكها بألسنتهم جيل من بني قومي لا يرضى بالانتساب إلى الوطن إلا من خلال بطاقة تعريفية، أما حقيقة أمره فإنه يُحَلِّق بهويته في عوالم وليس عالم. وإلى الله المشتكى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *