همسات في الآذان في بداية هذا العام ما بين التربية والتعليم (2) الدكتور يوسف مازي أستاذ باحث في العلوم الشرعية عضو المجلس العلمي المحلي ببني ملال

إن كثيراً من البلاد الإسلامية في عصورها المتأخرة خسرتْ أكثر مما ربحت، حين ظنتْ أن مبادئ التربية، وأصول التعليم تستوردُ كما تستورد السلع والبضائع، وضلت حين حولت التعليم إلى معاملات تجارية؛ زعما منها أنها تحارب الأمية.
لقد ابتلي العالم الإسلامي بالتبعية الثقافية التي أربكت رؤيته لذاته ومحيطه، ولأهدافه وغاياته، وسلخته عن دينه وقرآنه.
وإن ويلات كبرى تولَّدتْ حين مجد التعليم، ليس لشيء إلا لأنه تعليم. فحين مجد مقطوعاً عن غاياته وأهدافه ومصادره، تشوهت التربية والتعليم. وساد التفسخ الخلقي، وفقدت الغيرة الدينية، فاعتني بالعمران الحجري على حساب العمران البشري، وعلى أنقاض الأخلاق والفضيلة…
لم يكن ليوجد هذا الانقلاب في المفاهيم والاختلال في الموازين، لولا خضوع كثير من المجتمعات المعاصرة لبريق خداع يرفع من شأن التعليم لشهاداته، ولمجرد أنها شهاداتٌ، أو لأن صاحبها نالها من هنا، أو حصل عليها من هناك. والغرب نفسه هو من يقول بالمثل المعروف عندهم: الشهادة لا تصنع الرجل .
فلا فائدة في علم لم يُكس بخلق ، ولا جدوى من تربية لم تُثمر عملاً صالحاً، ولا خير في معارف تورث شبهات فكرية، ولا نفع في ثقافاتٍ تشككُ في العقيدة الإسلامية وتستخفُّ بالدين وثوابت التاريخ، ويجاهرُ أصحابها بالتطاول على عظماء الأمة، والنيل من سلفها الصالح.
فكيف يكون مستقبل أمةٍ تنبتُ فيها مثل هذه الظواهر، ويرضع أبناؤها من هذا الكدر؟
إنما هذه الأمة، وهذا النشء هم غرس المصطفى صلى الله عليه وسلم وثمرةُ دعوته وجهاده، وأحفادُ أصحابه المؤمنين رضي الله عنهم. إنه إذا حُفظتْ عقول هؤلاء الفتية وأخلاقهم، وأحيطتْ تربيتهم بسياج الدين، وربطتْ برباط العقيدة؛ سوفَ تصحُّ المناهج، وينفع التعليم، وتثبتُ الأصالة، ويتضح السبيل، وترتفع الراية ويحصل التمكينُ.
إن زيادة جرعة العلوم الشرعية ستقي لا محالة من التوجه للتطرف والتشدد والتنطع في الدين.. وستسم التعليم بسمة الربانية وتجعل صاحبه أكثر خشية لله؛ قال الله تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ فاطر: 28، كما أنه يساعد على معرفة الحق والاهتداء إلى الطريق الأقوم؛ قال الله تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد سبأ:6.
إن المناهج الجيدة هي التي تصدر عن رؤية شاملة ومتكاملة لوظيفة الإنسان في هذه الحياة، وما يحتاجه بناؤه الشخصي من مبادئ ومفاهيم ومعلومات ومهارات، ومتطلبات الاندماج في الحياة العامة، ومسايرة العصر في إلمام تام بواجبات الوقت وملابسات الواقع. وتغرس في النفوس والعقول الانتماء للوطن، والثقة بالنفس، والاعتزاز بالتاريخ، والتشبث بالثوابت..
سئل أحد المفكرين عن مستقبل أمته، فقال: أعطوني مناهج تعليمها لأقول في مستقبلها.
إنّ أوّل ما ينبغِي ترسيخه في قلوبِ أبنائنا وتُبنى عليه قواعدُ تربيتهم، عقيدةٌ صحيحة تربطهم بالله، وباليقين به والتوكّل عليه، وبمراقبَتِه.. عندها يصبِحون ذوي همم عالية وعزائم قوية وإرادات صلدة، فتمتلئ قلوبهم بالإيمان الذي يفتق الطاقات، فيُرجى النّتاج، وتتحقَّق الآمال..
وقد بين فقهاؤنا -رحمهم الله- أنَّ من صفات القيادة: أن يكونَ القائد من أولي العزمِ من الرجال أي: ذو همّة عالية، وقوّة وعزيمة وشجاعة نابعة من الإيمان، ومنه يُعلَم سرُّ اهتمام الأعداء بتدجين الشباب وإغراقهم في الشّهوات والملذات وهدم عقيدتهم؛ لإحباطِ عزائمهم ثمّ استرقاقهم .لتسهُل قيادُتهم بل واستعبادُهم..
حتى أصبحنا نرى اليوم جيلا مقطوع الصّلةِ بعقيدته ومبادئه وهويّته.. مغيَّبا عن تراثِه وتاريخِه وهموم أمته.. وقد آلمني كلام لأحدهم من دعاة التغيير الوهمي عندما علق لافتة في وقفة احتجاجية كتب عليها: (أنا لن أركع أو أسجد إلا لحبيبتي)!
فمثل هذا هو من قيل في حقه: همه في بطنه وفرجه!! وأستغفر الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *