التواجد المغربي بالأندلس مصطفى الحسناوي

الأندلس قطعة من المغرب، حضارية وثقافية. امتداد جغرافي وتاريخي دام قرونا، لقد كانت أول بداية لهذا الامتداد مع القائد الأمازيغي المسلم طارق بن زياد، ابن ولاية تلمسان، الذي فتح الأندلس سنة 92هـ، بجيش قوامه سبعة آلاف جندي أمازيغي وثلاثمائة من العرب، تم نقلهم على متن أربع سفن لجبل كالبي، الذي سمي فيما بعد بجبل طارق وبقي هكذا اسمه إلى يومنا هذا.
وسبقت حملة طارق هذه حملة استطلاعية قام بها القائد الأمازيغي المسلم، “طريف بن مالك”، ولا يزال المكان الذي نزلت به حملته يسمى لحد الساعة باسمه، جزيرة طريف أو طريفة. ومنذ ذلك العهد بدأت دولة إسلامية بمقومات حضارية وثقافية فريدة، شكل العنصر المغربي والأمازيغي عنصر ثراء وتميز وتفرد فيها، وبدأت رقعة هذه الدولة تزيد وتتسع.
لكن السنن الكونية والشرعية لا تحابي أحدا، فبدأ الضعف يذب في مفاصل تلك الدولة ويسري فيها سريان السم في العروق، نتيجة الكيد والمكر الخارجي، والوهن والصراع الداخلي، فانقسمت البلاد إلى 23 دويلة بين عربية وأمازيغية وغيرها، وانفتحت شهية الدول الصليبية فكشرت عن أنيابها، وهكذا بدأت أولى المحاولات لتشكيل حلف صليبي على يد الفونسو الثاني سنة 788 ميلادية، لكن محاولته فشلت أمام يقظة الدولة الأموية، ثم أعاد الكرة الملك شانجو في القرن العاشر، ثم أكمل الخطة فردناند الأول بدعم من البابا اسكندر الثاني، الذي نظم حملة فرنسية إيطالية مشتركة سنة 1063م لمهاجمة المسلمين.
ودامت حملات وهجمات فردناند، لدرجة أصبح معها المسلمون يدفعون له جزية مقابل الكف عنهم وتجنب حملاته، ولولا تدخل العناية الإلهية لانتهى أمر المسلمين على يده في وقت مبكر، لكن وفاته سنة 1065م وتشتت النصارى من بعده، أجل هذا المصير المؤلم قرونا أخرى من الزمن.
بقي أمر النصارى على هذا الحال من الضعف والتشرذم، وحال المسلمين من حالهم، حتى جاء ألفونسو السادس الذي جمع النصارى ووحد إماراتهم المتفرقة، ثم اتخذت هجوماته على المسلمين شكل حروب صليبية يوجهها بابا الكنيسة ويباركها. فأصبحت إمارات ملوك الطوائف تتساقط الواحدة تلو الأخرى كأوراق الخريف، وكانت أولى الإمارات سقوطا هي طليطلة سنة 1085م، ثم ولى وجهته صوب إشبيلية التي كانت تحت حكم المعتمد ابن عباد، وحاصرها وأحرق ما حولها من القرى والغابات، فرفض المعتمد قبول شروط وطلبات ألفونسو الذي يسمى أيضا أدفونش، وقتل رسوله الذي جاءه بتلك الطلبات وصلبه وعلق جثته، فما كان من ألفونسو إلا أن شدد حصاره وعزم على الانتقام، فجمع المعتمد أهل الرأي والمشورة ليشيروا عليه، فكان مما قاله في ذلك المجلس، فقيه الأندلس أبو عبد الله بن عبد البر:
قد أُبْصِرنا ببصائرنا أنَّ مآل هذه الأموال إلى هذا، وأن مسالمة اللَّعين قوَّة بلاده، فلو تضافرنا لم نصبح في التِّلاف تحت ذلِّ الخلاف، وما بقي إلاَّ الرجوع إلى الله والجهاد”. وهي دعوة ورأي أيضا الفقيه أبو الوليد الباجي.
واستقر الرأي على الاستعانة بحكام المغرب المرابطين، فسافر ابن عباد بنفسه للمغرب وقابل ابن تاشفين الذي وافق على الفور، فابتهج الأندلسيون لمقدمه، احتلت طلائع المرابطين الجزيرة الخضراء، وعلت صيحة الجهاد في المغرب والأندلس، وانضمت لابن تاشفين قوات باقي ملوك وأمراء الطوائف، فتكونت جبهة إسلامية متحدة تحت قيادة المغاربة، وزحف المسلمون نحو إشبيلية، وخاضوا معركة الزلاقة سنة 1086م، وانتصروا فيها انتصارا كاسحا دحروا فيه جيوش النصارى، وتم ضم الأندلس إلى المغرب وتشكيل دولة واحدة عاصمتها مراكش، حيث تم الأمر بخوض عدة معارك على مراحل امتدت إلى سنة 1091م، بعد أن رأى يوسف بن تاشفين أن بقاء ملوك الطوائف وحالة التشرذم التي تعكسها الدويلات والإمارات المتعددة يشكل خطرا على المسلمين هناك، فكان لابد من توحيد المسلمين تحت قيادة واحدة، وهي الفتوى التي دعا إليها كل من أبي بكر الطرطوسي وأبي حامد الغزالي، أي وجوب خلع ملوك الطوائف وانتزاع الأمر من أيديهم وتوحيد المسلمين.
ما لبث أن دب الضعف في دولة المرابطين، الأمر الذي انعكس على المسلمين بالأندلس، فأصبحوا لقمة سائغة في يد النصارى من جديد، فطلبوا النصر مجددا من حكام المغرب الجدد، فكان ممن وفد إلى المغرب لمقابلة السلطان عبد المومن ودعوته للنصرة والجهاد في الأندلس، القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن العربي الإشبيلي، على رأس مجموعة كبيرة من علماء إشبيلية، سنة 542هـ-1147م.
بقي حال المسلمين بين كر وفر، وخاضوا عدة غزوات وحروب مع النصارى في الأندلس، حيث عبر الموحدون من المغرب عدة مرات منذ توليهم الحكم، إلى سنة 1212م، السنة التي أنذرت بنهاية الحكم الإسلام بالأندلس والتواجد المغربي بها، في معركة سميت معركة العقاب، على عهد السلطان الموحدي الناصر أبو عبد الله محمد، الذي خاض معركة غير متكافئة ضد جيوش صليبية مشتركة بين عدد من الدول الأوربية بقيادة ملك قشتالة الفونسو الثامن، وبمباركة بابا الكنيسة أنوسنت الثالث.
كانت معركة العقاب إعلانا عن بدأ ضعف المرابطين، الذين حل محلهم المرينيون، وقد عبروا أيضا البحر لنجدة المسلمين هناك وبسط سيطرتهم على الأندلس، وكان آخر عبور لهم سنة 1275م، على عهد يعقوب بن عبد الحق المريني، لكن بسط النصارى نفوذهم على جبل طارق، حال نهائيا دون عودة المغاربة لمهاجمة الأراضي الإسبانية، وسقطت الأندلس في يد الإسبان بل أصبح المغاربة في حالة دفاع بعد أن كانوا في حالة هجوم، وخاضوا لأول مرة معارك مع الإسبان على الأراضي المغربية.
خلال تلك الحقبة المزهرة للتواجد المغربي بالأندلس، خلف المغاربة تراثا حضاريا وعلميا وثقافيا، لايزال إلى اليوم شاهدا على العبقرية والنبوغ المغربي، حين تنصهر مكوناته العربية والأمازيغية في بوتقة الإسلام ويقودها قيادات مسلمة فذة عظيمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *