قدمنا في الحلقة الأولى توطئة لهذا الموضوع، بينا فيها أهمية وضرورة صون لساننا عن الألفاظ والعبارات الدخيلة التي تشوه وجه لغتنا الحسنَ وتمسخ بيانها ورونقها، وتسكب عليها وابلا من الركاكة والإسفاف، وأشرنا إلى وجوب العودة إلى تمثل إعجاز لغتنا العظيمة بالتبحر في كتاب الله تعالى قراءة وحفظا وفهما؛ إذ هو منبع البلاغة وأصل البيان ومقياس الفصاحة، به نعرف الأصل من الدخيل، وكذلك قراءة كتب الحديث النبوي الشريف وشروحه وكتب الفقه والتاريخ المنقح ومصنفات الأدب واللغة والبلاغة التي لم تُصِبها عُجمةٌ.
يقول الدكتور تقي الدين الهلالي -رحمه الله-: “ولم يزل علماء اللغة معتنين بهذا الموضوع؛ باذلين جهدَهم في تنظيف الإنشاء العربي من الألفاظ الدخيلة والتعابير الثقيلة” ، وما أحوجنا نحن إلى ذلك في زمن غربة اللغة العربية، وقد نشأنا متأثرين بلغة القوم الأقوياء؛ فمن عادة الضعيف أن يقلد القوي، ومن عادة القوي أن يخدم لغته بحبها وتبجيلها وترسيخها في المجتمعات الضعيفة، والله المستعان.
ومن أشهر العبارات الدخيلة التي تكثر في كتاباتنا وكلامنا ما يعرف بـ”الكاف الدخيلة الاحتلالية”، كقول صحفيينا وباحثينا، بل وبعض علمائنا: “هل تعمل كوزير للصناعة على إنشاء مصانع لتنمية التشغيل..؟” أو: “أنا كأستاذ أهتم بتنمية الجانب الأخلاقي عند التلاميذ “.
وفي هذه الكاف الاحتلالية قال الشيخ تقي الدين الهلالي رحمة الله عليه: “أما تسميتها دخيلة فلا إشكال فيه؛ لأنها لا توجد في الإنشاء العربي الذي قبل هذا الزمان، وأما تسميتها احتلالية فلأنها دخلت في الإنشاء العربي مع دخول الاحتلال البلدانَ العربيةَ، فإن جَهَلَةَ المترجمين تحيروا في ترجمة كلمة تجيء في هذه اللغات قبل الحال، وهي في الإنجليزية (as) وفي الفرنسية (comme) وفي الألمانية (als)، مثال ذلك: فلان مشهور ككاتب.
وهذا الاستعمال دخيل لا تعرفه العرب، ولا يستسيغه ذوق سليم، وليس له في قواعد اللغة العربية موضع ، ثم سار الهلالي رحمه الله تعالى يوضح الحالات الصحيحة التي يجيء عليها حرف الكاف في اللغة العربية بكلام طويل نلخصه كالآتي:
تجيء الكاف في كلام العرب لأربعة أمور:
1 ـ التشبيه: كقول المتنبي في ممدوحه:
كالبحر يقذف للقريب جواهرا جودا ويبعث للبعيد سحائبا
كالشمس في كبد السماء وضوؤها يغشى البلاد مشارقا ومغاربا
وقد تحقق في البيتين أركان التشبيه الأربعة، والكاف هنا أداة تشبيه، وبهذا تعلم أن الكاف الاحتلالية لا يجوز أن تكون للتشبيه ألبتة؛ لعدم وجود أركانه.
2 ـ التعليل: ودليله قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ لَمِنَ الضَّالِّينَ} (البقرة/198) أي: واذكروا الله لأنه هداكم.
3 ـ أن تكون زائدة: وذلك إذا دخلت على كلمة بمعناها، كما في قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى/11)، والأحرف الزائدة في القرآن الكريم لها دلالة التوكيد وتقوية الكلام، وليس المقصود أنها زائدة لا معنى لها؛ فقد زِيدَت هنا لتوكيد النفي (ليس)، ولو حُذِفَتْ لكان الكلام تاما.
4 ـ أن تكون اسما بمعنى (مثل)، كقول الشاعر:
أَتنتهون ولن يَنهَى ذوي شطط كالطعن يَذهَب فيه الزيتُ والفتلُ
فالشاعر ينكر على أعدائه عدمَ انتهائهم عن ظلمهم وبغيهم بالاستفهام في بداية البيت، ويؤكد على أنهم لن ينتهوا إلا بأن يُقاتَلوا ويُطعَنوا بالسيوف والرماح حتى يذهب زيتُهم، وهو كناية عن الهلاك التام، فالكاف جاءت بمعنى (مثل) وهي فاعل مؤخر تقديره: لن ينهى ذوي شطط مثلُ طعنٍ…
يقول الدكتور الهلالي رحمه الله في الأخير: فهذه معاني الكاف عند العرب، وما سواها شاذ لم يجيء في الكلام البليغ.
وصواب مثل هذه الجمل -والله أعلم- هو: (أنا بصفتي أو بوصفي أو باعتباري أستاذا أحب لغتي العربية) أو (هو لكونه عالما متبحرا يحق له أن يفتي في النوازل) وهلم جرا في كل عبارة من هذا القبيل.
وقد شاع في عصرنا الحاضر استعمال كلمة (ساهم) التي تعني (اقترع)، في محل (أسهم) التي تعني (شارك)، ولا يكاد يَسلَم من هذا الخطأ إلا النزرُ اليسيرُ من محبي لغة الضاد، فتسمع على سبيل المثال: (ساهم فلانٌ في بناء مسجد)، والصواب (أسهم) لا (ساهم).
وامتد الخطأ إلى كل تصاريف هذا الفعل، فتسمع (يساهم؛ ساهم؛ مساهمة) في مكان (يسهم؛ أسهم؛ إسهام).
ونحن نقرأ في كتاب الله العزيز: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} (الصافات:139ـ142)، أي فاقترع، يقول الطاهر بن عاشور: “وساهم: قارع، وأصله مشتق من اسم السهم؛ لأنهم كانوا يقترعون بالسهام، وهي أعواد النبال، وتسمى الأزلام… وسنة الاقتراع في أسفار البحر كانت متبعة عند الأقدمين إذا ثقلت السفينة بوفرة الراكبين أو كثرة المتاع” .
ومن العبارات الشائعة غير الفصيحة قولنا: شكرتك ونصحتك، يقول علي بن حمزة الكسائي: “وتقول: شكرت لك، ونصحت لك، ولا يقال شكرتك ونصحتك. وقد نصح فلان لفلان، وشكر له، هذا كلام العرب. قال الله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} (لقمان/13)، {وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونَ} (البقرة/151)، {وَلاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} (هود/34) ” .
يُتبعُ إن شاء الله…