يوميات معلم مغربي بالمزرعة عفوا بالمدرسة ذ. إبراهيم أبوالكرم

..لا شيء يكسر صمت هذا الليل الطويل بهذه القاعة الواسعة غير نباح كلاب بساحة المدرسة. كلاب جائعة لا تفارق الساحة بحثا عن كسرة خبز قد يكون رنين الجرس دفع بأحد التلاميذ للتخلص منها في زاوية ما؛ قبل أن ينتهي من تناولها…
للخبز علاقة حميمية مع التلاميذ عندنا؛ فكلما أعلن عن الاستراحة رأيتهم مغتبطين إذ يخرجون من محافظهم قطعا كبيرة من الخبز الحافي؛ يعانقونه بشدة ويجرون للساحة لازدراده…كم يمزقني هذا المشهد الذي يكرس لي يوما بعد آخر أننا ننتمي فعلا لعصر لم يعد يذكر سوى في كتب التاريخ القديمة…
طفل يعانق بحرارة وبحب خبزا يابسا يستجديه أصدقاؤه ليعطيهم كسرة منه فيرفض، ويشعر بنشوة غريبة وعظيمة… هنا تتحدد الصداقات بين الأطفال وتظهر العداوات منذ الصغر لسبب واحد هو الجوع مع احترامي الشديد لهذا الوباء…
الكلاب تواصل نباحها، يبدو أنها لم تظفر بشيء يسد جوعها هي الأخرى. لكنها نجحت في جعلي أتساءل: إلى أي عالم أنتمي أنا بالضبط. عندما فكروا في بناء سور لهذه المدرسة تعاملوا مع الوطن ومع أنفسهم بكثير من الغباء والإهانة… لا أفهم الحكمة في أن يبنى سور ناقص للمدرسة، جزء مبني منذ سنوات والآخر معلق إلى ما لا يعلم إلا الله. هكذا تفقد فلسفة الحرمة والوقاية والسياج مصداقيتها. وهكذا تختلط الكلاب بالتلاميذ في الساحة كل يوم.
كلاب بمختلف الأعمار والألوان والأحجام والعاهات… الحمير أيضا تتجول في الساحة ليلا ونهارا…. الحمير وحدها جعلتنا نقتنع أخيرا أنه من الحماقة محاولة التفكير مجددا في غرس الورود والأزهار ككل مدارس العالم…
ففي كل مرة نقيم حفلة صغيرة بمناسبة إنشائنا لبستان داخل المدرسة يأتي حمار جائع فيقرر أن حاجته لتلك النباتات أكبر من حاجة المدرسة لها، فيأتي على الأخضر واليابس ولا يترك لنا سوى الحسرة… الحمار لا يحتاج لشيء في تنفيذ قراراته سوى لأسنانه وهي قوية وصلبة بما فيه الكفاية…
الأبقار أيضا تتجول جنبا إلى جنب مع غيرها من الحيوانات والأطفال والمعلمين والحارس الذي لا يستطيع مقاومة هذا المد الحيواني المخيف…لا تعني هذه الصور بالنسبة لي غير الهزيمة والضياع وكثير من الحيرة والقلق..
ما أشبه بلدنا بجواره؛ رأيت في بلاد موريتانيا الحمير والكلاب والبقر والمعز وحتى الجمال تتجول في ساحات المدرسة؛ وتتسلل القطط والدجاج إلى داخل الفصول، بينما يكتفي الجمل بمد عنقه من النافذة ليلتقط حرفا أو حرفين عل الله ينفعه بهما؛ أما الحمار فقد قطع أشواطا كثيرة في التعليم، بعد أن التهم كثيرا من الدفاتر والكتب حينما يغفل عنها المتعلمون؛ فكثيرا ما يتربص برفقة المعز بالدفاتر ليتناولها؛ في سابقة لي أرى فيها الأنعام تقتات على الكرطون والكاغد. حتى أصبح هذا الحمار يلقب بالعالم؛ لكثرة ما أكله من شروح الألفيات والفقه والأصول؛ وبلغ ذلك بالطلبة أن رثوه حينما مات!!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *