الحداثيون والوجه الآخر للثورة الفرنسية ذ. الحسن العسال

كثيرا ما حدثنا الحداثيون عن تاريخانية النصوص، وعن اقتحام المسكوت عنه، وكشف المستور، وهدم المقدس. لكن كل هذا لم يكن المقصود منه “الموضوعية”، بغض النظر عن مضمونه، أي لم يكن المقصود منه تطبيقه على كل موضوع، وإنما كان الهدف منه، النيل من ثوابت الإسلام، لأننا لم نر ولم نسمع لهؤلاء الحداثيين كلمة واحدة عن خبايا العار التي “يتحلى” بها الأسياد.
بل إنهم يمارسون العكس تماما، مما يوقعهم في التناقض الذي يأتي على بنيان العقلانية التي يدعونها من القواعد، وذلك بتقديس نصوص حداثية، والسكوت عن مستور الغرب.
إن هؤلاء الحداثيين الذين يأخذون افتراءات المستشرقين حول التاريخ الإسلامي على أنها مسلمات لا تحتمل الرد، أو التشكيك فيها، إن لم نقل أنهم يحتفون بها احتفاء من عثر على كنز ثمين في صحراء أفكاره. لم نسمع لهم حسا، فيما يخص تاريخ الغرب الإجرامي، بل لن تجد -مثلا- إلا شذرات هنا وهناك، حول جرائم الثورة الفرنسية، والتي بث بعض كلمات منها الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه “الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ”، إذ تحدث عن جريمة إبادة جماعية ارتكبتها قوات الثورة الفرنسية ضد سكان منطقة فرنسية تسمى “فاندي”، نقلا عن ضابط شارك فيها، وسار في دماء الضحايا التي بلغت ركبتي جواده.
لم يتحدث صاحب المقالات الإرهابية التي يبثها في اتجاه الإسلام والمسلمين، في كل لحظة وحين، عن إرهاب الثورة الفرنسية “المجيدة”، لأنه هو ورفاقه يحفرون، كما استلهموا ذلك من سيدهم “فوكو”، في التاريخ الإسلامي، والفقه الإسلامي..، لكنهم لا يجرؤون، بل وتأخذهم الرهبة، لمجرد التفكير في تطبيق ذلك على التاريخ الغربي والفكر الغربي، إن هم فكروا أصلا في ذلك، ولن يفكروا لأنهم متيمون، والمتيم لا حظ له في التفكير، أو استعمال العقل، تجاه المتيم به.
وممن أكد هذه الإبادة الجماعية في حق الفانديين “صوفي ماسون”، التي أدلت بشهادة قالت فيها: “في بداية عام 1794م قرر الروبيسيريون (أتباع الزعيم ماكسيمليان روبسيير) إبادة الفانديين حتى آخر رجل وامرأة وطفل. وإذا كانت الثورة الفرنسية أول إيديولوجيا حديثة، فإن “فاندي” تكون مذابح بدائية رهيبة، تعد من أعمال الإبادة الجماعية” .
هذه أعمال إرهابية سجلها التاريخ، وليست رسائل حرف معناها، كما اقترف صاحب المقالات الإرهابية، أشقاهم، على الرغم من أن أحفاد “جون جاك روسو” عملوا كل ما في وسعهم على إخفائها، والسكوت عنها.
إن هذه الإبادة الجماعية التي لا سابق لها في التاريخ الحديث، قد خلفت على الأقل، حسب إفادة صوفي ماسون، 300.000 قتيل أبيدوا عن بكرة أبيهم بلا رحمة، ولم يكتف “المتحضرون الثوريون” بهذا، بل طاردوا “الفانديين” في الغابات التي اختبؤوا فيها، وأجهزوا عليهم ذبحا أو شنقا أو رميا بالرصاص، ولأن الحقد الثوري الحداثي لا حدود له، فقد تم تقطيع جثة آخر قائد تم إعدامه، ووزعت على العلماء، فيما تم تمليح رأسه في إناء زجاجي، أما مخه فتمت دراسته لمعرفة أين توجد بذور العصيان عند البدائيين!
وكم مرة احتفل بذكرى الثورة “المجيدة” دون أدنى إشارة إلى إبادة هؤلاء الأبرياء!
فأين هذه الوحشية الثورية الحداثية الفعلية من رسائل نبوية تحمل كل معاني الرحمة والسلم؟
ما بال أستاذ الفلسفة الحاقد، الذي عوض أن يتكلم في فنه، ويكشف مستوره، يتكلم في فن غير فنه، فيأتي بالغرائب والعجائب؟
لماذا لم ينح منحى الفيلسوف طه عبد الرحمن، على الرغم من اختلافنا معه، خصوصا فيما يتعلق بعقيدته الصوفية، إلا أنه يعتز بهويته وتراثه، وينهل منهما، مع دفاعه عن القيم والأخلاق، نظرا وسلوكا؟
لماذا، عوض النيل من الجناب الشريف،لا يتم مناقشة الأطروحات الجادة، مثل محاضرة: “أخت العلمانية وفصل الدين عن نفسه”.
لماذا لم يحرر لنا الأستاذ النحرير كتابا عن الفترة الممتدة بين 1792 و1794 في التاريخ الفرنسي، عوض أن يهرف بما لا يعرف، محاولا فصل الدين عن نفسه؟
أو لماذا لم يترجم لنا شهادة الكاتبة الفرنسية الأسترالية صوفي ماسون “لنتذكر فاندي”، أو كتاب “إبادة جماعية فرنسية” لرينالد سيشر، أو كتاب: “الإرهاب: حرب أهلية في الثورة الفرنسية” للمؤرخ البريطاني “دافيد أندرس”؟
ليبحث لنا عن الوجه الآخر للثورة الفرنسية، كشفا عن أول إبادة جماعية في العصر الحديث؟
أو ليحلل لنا نصا من النصوص المحرضة على الإبادة الذي أورده “سيشر”، إذ يقول:
“يا جنود الحريةِ
إن لصوص فاندي (فندييه) يَجِبُ أَنْ يبادوا
جنود الأمةِ يطلبون ذلك
نفاد صبر الفرنسيين يفرض ذلك
شجاعتهم يَجِبُ أَنْ تُتم ذلك”..
وإذا أضفنا لهذا أن أحد بروتوكولات اليهود يقول: “تذكروا الثورة الفرنسية التي نسميها “الكبرى”، إن أسرار تنظيمها التمهيدي معروفة لنا جيدا، لأنها من صنع أيدينا”.
وفي بروتوكول آخر: “كذلك كنا قديما أول من صاح في الناس “الحرية والمساواة والإخاء”، كلمات ما انفكت ترددها، منذ ذلك الحين، ببغاوات جاهلة متجمهرة، من كل مكان، حول هذه الشعائر”.
إذا أضفنا هذا نعلم من أين أوتيت الثورة “المجيدة”، ومن أين يؤتى العالم بأسره، فعلى الرغم من الشعار الثلاثي للثورة الفرنسية، المتمثل في: “الحرية والإخاء والمساواة”، فإن الثوار “الأماجد”، فضلا عن الجرائم السالفة الذكر، حلوا الجمعيات الدينية، وسرحوا الرهبان والراهبات، وصادروا أموال الكنيسة.
لماذا يلوي هذا الدهراني الأشر وأمثاله، ممن أنكر عصمة الأنبياء أعناق النصوص؟
أليرضون الأسياد، كي يمطروهم بالثناء والدولار والأورو، عوض نيل الأجر ورضوان رب العالمين؟
لماذا لا يشمر الحداثيون عن ساعد الفكر، ليكشفوا لنا عن الدور الخفي والمحوري لليهود في الثورة الفرنسية، مميطين اللثام عن الثابت الإجرامي، والمتحول المصلحي في الفكر الغربي، مسترشدين بشعارهم الذائع الصيت: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس، ليتضح جليا شعارات التسامح التي يتغنى بها الغرب، ليخدر بها ضحاياه؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *