رابعا: ظاهرة الحيرة والشك والقلق عند الفلاسفة المسلمين:
لاحظ بعض علماء أهل السنة ظاهرة الحيرة والشك والقلق على كثير من الفلاسفة المسلمين، وتكلّموا عنها وصفا وتعليلا وتأثيرا، فقد ذكر ابن الجوزي أنه رأى أقواما من المتفلسفة المسلمين لم يكسبهم التفلسف إلا الحيرة والاضطراب، فلا هم يعملون بمقتضاه، ولا هم يعملون بمقتضى الإسلام، وفيهم من يصوم ويصلي، ثم يعترض على الله ورسوله، ويتكلم في إنكار بعث الأجساد، فهو في عامة أوقاته في تسخّط على الأقدار واعتراض على المُقدّر، ثم قال ابن الجوزي أن أحدهم قال له: أنا لا أُخاصم إلا من هو فوق الفلك، ويقصد بذلك الله تعالى، وهو قول في غاية الجهل والوقاحة، يدل على أن قائله جاهل بالله وحكمته في خلقه، وأنه أيضا يعيش حالة شك واضطراب وقلق.
والعالم الثاني هو أبو عمرو بن الصلاح جعل الفلسفة مادة الحيرة والضلال والزيغ، وثالثهم تقي الدين بن تيمية، قال: إن الفلاسفة والمتكلمين هم أكثر الناس شكا واضطرابا، وليس لهم إلا الجدل والاعتراض، وهما ليسا بعلم، فقد أوتوا ذكاء لا زكاء، وأُعطوا فُهوما لا علوما، وآخرهم شمس الدين الذهبي، قال: إن علوم المنطق والجدل وحكمة الأوائل تسلب الإيمان، وتورث الشكوك والحيرة.
وقد ذكر علماء أهل السنة طائفة من أهل الفلسفة المشكاكين الحيارى المضطربين، كنماذج يستدلون بها في نقدهم للفلسفة اليونانية ومقاومتهم لها، أذكر منهم ستة، أولهم أبو حامد الغزالي، قال عنه ابن تيمية: هو من المتأخرين الذين خلّطوا الفلسفة بالكلام، فكثُر اضطرابه وشكه وحيرته، بحسب ما ازداد به من ظلمة المتفلسفة الذين خلّطوا الفلسفة بالكلام، وقال عنه أيضا: وهو مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته بالكلام والفلسفة، وسلوكه طريق الصوفية، كان ينتهي في المسائل الكبار إلى الوقف والحيرة، لكنه في آخر حياته استقر حاله على طريقة أهل الحديث.
وثانيهم محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت548هـ)، كان من كبار المتكلمين المتفلسفين المتعصبين للفلاسفة المتأثرين بهم، قال عنه ابن تيمية: اعترف الشهرستاني أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، وكان ينشد:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيّرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أجد إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم
وثالثهم صدقة بن الحسين البغدادي، قال عنه ابن الجوزي وابن رجب البغدادي: أفسدت الفلسفة عقيدته، وأصبح يعترض على القدر وينقم عليه، ويقول: أنا لا أخاصم إلا من هو فوق الفلك، وكان ينتابه شك وحيرة، يظهران على أشعاره، كقوله:
وحيرتا من وجود ما تقــدمنا فيـه اختيـــار ولا علـــم فنقتبس
ونحن في ظلمات ما لها قمر يضيء فيها ولا شمس ولا قبس
وقوله:
نظرت بعين القلب ما صنع الدهر فألفيته غرا و ليس له خبر
فنحن سدا فيه بغير سياسة نروح ونغـــدوا وقـد تكنــفنا الشر
وقوله عن الدنيا:
أتراها صنعة من غير صانع أم تراها رمية من غير رام
فهذا الرجل -أي صدقة ابن الحسين- دمرته الفلسفة اليونانية، وأدخلته في حيرة واضطراب ما لهما من قرار، وأفقدته إيمانه بدين الإسلام، أو كادت أن تخرجه منه، فالمسائل التي حار فيها و لم يجد لها جوابا، جوابها بيّن ناصع في القرآن والسنة، لكنه تركهما وراح يلهث وراء ضلالات اليونان وخرافاتهم، ليجني منها الحيرة والاضطراب.
ورابعهم الفخر الرازي، قال عنه ابن تيمية: هو من المتكلمين المتفلسفين المتأخرين الذين خلّطوا الفلسفة بالكلام، فكثُر اضطرابه وشكه وحيرته، بحسب ما ازداد به من ظلمة المتفلسفة الذين خلّطوا الفلسفة بالكلام، وقال عنه ابن حجر العسقلاني: إنه كان كثير التشقيقات والشبهات التي تورث الحيرة، فوقع هو فيها ولم ينج منها، وروى ابن الصلاح أنه التقى بمن سمع الرازي وهو يقول: (ليتني لم اشتغل بعلم الكلام، وبكى)، ومن أشعاره التي تعبر عن حيرته وقلقه، قوله:
نهـــاية أقـــدام العــقول عقـــال وأكثر سعي العالمين ضلال
أرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصـل دنيـانا أذى ووبـال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا