ليس كل اختلاف يقع بين المسلمين يُقال عنه فتنة يجب اعتزاله والبُعد عنه، خاصة في صراع الحق والباطل، فالفتنة التي يجب اعتزالها وعدم السعي فيها، بل اعتزالها والبُعد عنها ما أمكن؛ هي الفتنة التي يختلط فيها الأمر حتى لا يُقدر على معرفة المحق من المبطل، فهذه التي ينبغي اعتزالها.
قال ابن حجر: «والمراد بالفتنة ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك، حيث لا يعلم المحق من المبطل» (فتح الباري 13/31)..
أما إذا ظهر الحق والباطل وعُرف الجانب الذي معه الحق والجانب الذي يتمسك بالباطل؛ لم تصبح فتنة، بل صراع بين الحق والباطل، والواجب على كل مسلم في هذه الحالة أن يكون في صف الحق وأهله ومناصرته والتجافي عن الباطل وحزبه والسعي في إزهاقه وبذل كل ما يقدر عليه في سبيل تحقيق ذلك.
قال ابن حجر: «والصواب أن يقال إن الفتنة أصلها الابتلاء، وإنكار المنكر واجب على كل من قدر عليه، فمن أعان المحق أصاب، ومن أعان المخطئ أخطأ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها» (فتح الباري 13/31)..
ولو اعتزل الناس كل صراع بدعوى الفتنة لما أقيم حق ولا أزهق باطل؛ نقل القرطبي وابن حجر والشوكاني وغيرهم عن الطبري قوله: «لو كان الواجب في كل اختلاف يقع بين المسلمين الهرب منه بلزوم المنازل وكسر السيوف لما أقيم حد، ولا أبطل باطل، ولوجد أهل الفسوق سبيلاً إلى ارتكاب المحرمات من أخذ الأموال، وسفك الدماء، وسبي الحريم، بأن يحاربوهم ويكف المسلمون أيديهم عنهم بأن يقولوا هذه فتنة وقد نهينا عن القتال فيها، وهذا مخالف للأمر بالأخذ على أيدي السفهاء» (فتح الباري 13/34)..
والفتن تكون معلماً في التمييز بين الصادق والكاذب في دعواه الإيمان بحسب موقفه منها، كما قال تعالى: «أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين»، والفتنة هنا الابتلاء والاختبار.
ومن الفتنة -بمعنى الابتلاء والاختبار- الدعوة إلى مواجهة الباطل ومجاهدة أهله، ولذلك عندما أريد من الكاذبين في دعواهم الإيمان مواجهة أهل الباطل تقاعسوا عن الاستجابة، وذكر القرآن مقالهم في ذلك: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} التوبة:49؛ ففي التقاعس عن مواجهة الباطل تحت زعم عدم الوقوع في الفتنة المترتبة على المواجهة أعظمُ الفتنة، وكانت مواجهة الباطل والتصدي له رغم ما فيه من ابتلاء أعظم سبل النجاة من الفتن. (الفتن في صراع الحق والباطل؛ د.محمد بن شاكر الشريف).