ها هو شهر الرحمة والمغفرة يسابق الأيام ليعانق النفوس المشتاقة، ويصافح القلوب التواقة التي تهفو لهذا اللقاء وكلها أمل في الفوز برضى الله تعالى وتأسيس حياة جديدة تقطع الصلة بما كان في تلك السنة من تقصير وبعد عن الله تعالى.
شهر عظيم أصبغ عليه ربنا صبغة خاصة جعلته تاج الشهور بما حباه الله من سطوة إيمانية عزَّتْ في باقي الأيام، شهر يستبشر به المقتصد والسابق بالخيرات والظالم لنفسه، كيف لا وهو منحة ربانية خاصة لا يظفر بها المرء إلا مرة في السنة.
لكن المثير للانتباه هو طبيعة استعداداتنا أفرادا أو جماعات لاستقبال هذا الضيف الغالي والتي تتباين بشكل سافر مع مثيلاتها عند سلفنا الصالح.
فسلفنا الصالح كان يحسن التدبير، ويشمر عن ساعد الجد لكل الفرص الثمينة التي بيَّنها لنا الشارع الكريم، كانوا يقدرون الزمن ويُولُونَ اعتبارا لكل الأوقات، فيُجيدون اغتنامها لأنها إن مضت لن تعود.
قال الحسن البصري رحمه الله: “أدركت أقواما ما كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم”.
فقد رُوي أنهم كانوا يستبقون رمضان بالدعاء بستة أشهر حتى يدركوه، فإن هم بلغوه دعوا الله في الستة المتبقية أن يتقبل منهم. فجعلوا شهر رمضان محور حياتهم، وعليه مدار أمورهم.
وقوم هذا حالهم الوجداني مع رمضان، لن تتوقع منهم إلا أن يستعدوا له بالكثير من الطاعات، فكانوا قبله يتقلبون بين صائم بالنهار، وقائم بالليل والناس نيام، وقارئ يتلو ما تيسر من كتاب رب الأنام، ومتصدق يرجو رحمة ممن لا أحد عنده يُضَام.
عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ قَال: قُلتُ: يَا رَسُول اللهِ، لمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَال: “ذَلكَ شَهْرٌ يَغْفُل النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَال إِلى رَبِّ العَالمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عملي وَأَنَا صَائِمٌ” خرَّجه الإمام النسائي في سننه.
ويقول “ابن رجب” في كتاب لطائف المعارف: وقد قيل في صوم شعبان: إن صيامه كالتمرين على صيام رمضان؛ لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط.
ويقول أنس بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان المسلمون إذا دخل شعبان انكبُّوا على المصاحف فقرؤوها وأخرجوا زكاة أموالهم تقويةً للضعيف والمسكين على صيام رمضان.
أما نحن فنعيش الأشهرَ الستة قبل رمضانٍ الغفلةَ بكل ألوانها، كل في فلك يسبحون، وما أن يهل الشهر حتى نتذكر الصيام والقيام والقرآن والصدقة، بل لا يكاد بعضنا يفارق معاصيه إلا بعد أن يأذن شعبان بالانصرام؛ هذا إن فارقها فعلا!!!
من ذا الذي ما كفاه الذنبُ في رجب — حتى عصى ربَّه في شهرِ شعبان
لقد أَظَلَّكَ شهْر الصومِ بعــدَهُما — فلا تصيِّره أيضًا شهر عصيانِ
والعجيب الغريب استعداد إعلامنا العربي لشهر رمضان، فهو حقيقة ودون أن نغمطه حقه يستبق رمضان بالاستعداد بمجرد خروجه، فيهيئ ما استطاع من مسلسلات وأفلام وفوازير وكل الملهيات التي يتفنن في عرضها وزخرفتها حتى تكون أكثر إغراء، لا يكلُّ ولا يملُّ من ابتكار ما يلهي الصائم وينسيه أمور دينه، والمثير للتقزز اختياره سِيَرا ذاتية لراقصات ومغنيات لعرضها في هذا الشهر الكريم، واستهتاره بمشاعر المسلمين والسعي للعبث بها من خلال التفنن في مشاهد العري والإثارة دون وازع ولا رادع.
لكأني باللعين إبليس يضحك ملء فيه وهو يرى أتباعه على سُبُلِه حريصين ولِلِوَائه رافعين وإنْ سَبَّحوا وصلوا، فِتنٌ دَهْمَاء تفتك بنا، وقلوب عرجاء تُسَيِّر قوافل إعلامنا، وإصرار مقيت على الضلال والتضليل من زعمائنا، ولا حياة لمن تنادي.
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
إلى متى سيظل شهر رمضان مظللا بفتن الفوازير والدرامات العربية والتركية؟
إلى متى سنظل نتجرع مرارته في صمت ونبتلع سخريته منا وعبثه بأذواقنا؟
أسأل الله تعالى أن يلهم هذه الأمة سبيل الرشاد، ويجعل إعلامها منارا للهدى والبناء لا معولا للهدم.