إضاءات ( ج 8 ) ربيع السملالي

 

*الكتابة وسيلة وليست غاية، فبها ينقل الكاتب والأديب أفكاره وأحاسيسه وشعوره ورسائله وعقيدته إلى القرّاء، لذلك لا ينبغي أن نسرف في تنميق الكلمات، وتزويق العبارات، والجري وراء الألفاظ الفخمة، واللغة الصّعبة، من أجل مضمون تافه إذا فتّشناه لم نخرج من ورائه بطائل.

وقد لاحظت أنّ كثيرًا من دُعاة العلمانية والحداثة والليبرالية يكتبون بلغة سهلة ميسورة يفهمها الجميع، وغرضهم من ذلك أن تصل سمومهم وخبث أفكارهم إلى أكبر عدد ممكن من القرّاء…بل غلا بعضهم فصار يكتب باللغة العامية القبيحة على مواقع التواصل الاجتماعي، لأنّ ما يهمّه هو الفكرة أن تصل، ولا قيمة عنده للمبنى.

نعم قد نجد بعض كتبهم مستعصية على الفهم نضيق بها ذرعا، لكن ليس بسبب اللغة والأسلوب، ولكن بسبب الأفكار والمصطلحات المستحدثة في هذا العصر.

ومن الأدباء الإسلاميين المعاصرين الذين تنبّهوا لهذه المسألة الشيخ الأستاذ علي الطنطاوي، فإنّك حين تقرأ كتابًا من كتبه تجد السّهل الممتنع، واللغة الفصيحة الخالية من اللّحن، والبيان المشرق في غير مبالغة، أما الأفكار وهي الأهم فإنّها مكتنزة وكثيفة في كل صفحة من صفحات تواليفه رحمه الله..

أما من جمع الله له بين فصاحة القول وبلاغته، وسمو الأفكار وروعتها، فقمِن أن يشكر الله على هذه النّعمة، وحقيق بنا أن ندعو الله ليرزقنا ما رزقه ..

يقول ابن قُتيبة في مقدّمة كتابه الشعر والشعراء ج 1 ص 67:

وضرب منه حسُنَ لفظُه وحلا، فإذا أنتَ فتَّشْته لم تجد هناك فائدة في المعنى، كقول القائل:
ولمّا قضينا من مِنًى كُلَّ حــــــاجةٍ …ومسّحَ بالأركان من هو ماسح
وشُدَّت على حُدْبِ المهارى رحالنا…ولا ينظر الغادي الذي هو رائحُ
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا…وسالتْ بأعناقِ المَطيّ الأباطحُ

هذه الألفاظ كما ترى، أحسنُ شيء مخارج ومطالع ومقاطع، وإن نظرتَ إلى ما تحتها من المعنى وجدته : ولما قطعنا أيام مِنى، واستلمنا الأركان، ومضى الناس لا ينتظرُ الغادي الرائح، ابتدأنا في الحديث، وسارت المَطيُّ في الأبطح . وهذا الصّنفُ في الشّعر كثير.

إنني هنا لا أدعو إلى راحة القراء واسترخائهم، لكنني بالمقابل لا أريد أن نضعهم أمام الأحاجي، ولا أن نكتب لهم بأساليب الهمذاني والحريري والرافعي في بعض كتبه !  وفي هذا السياق يقول حنا مينة في كتابه ( هواجس في التجربة الروائية ) ص.11 :

إن كل كاتب يحتاج إلى قارئ، ثم ما قيمة الكاتب دون قارئ؟ قد لا أدعو إلى كتاباتٍ يفهمها القارئ العادي، لكنني أدعو إلى كتابة يفهمها المثقف على الأقل. الأمية سبعون بالمئة في الوطن العربي وترتفع في بعض الأقطار إلى الثمانين والتسعين، وعلينا ككتّاب أن نربّي القراء، أن نشوّقهم إلى القراءة، أن نوصل أفكارنا إليهم، فكيف نفعل؟ نكتُب للنخبة؟ هذا مرفوض في رأيي. القارئ لا يريد منّا أن نكتب أشياء يفهمها فحسب، بل يريد أن يرى صورته ومشاكله في كتاباتنا، ولهذا فإن الدوران في المتاهات النفسية للبطل المثقف لا تعني إلا مثقفًا آخر. القرّاء يريدون أن نطرح قضاياهم، ونمنحهم الرؤية فيها .

*****

*في ليلة من ليالي رمضان المبارك اقتنيت موسوعة ( سير أعلام النبلاء) للإمام الذّهبي، بتلك الطّبعة الفاخرة الأنيقة، طبعة الرّسالة، فجرى قلمي بهذه الكلمات عنها:

أيتها الفاتنة فمن أجلك هممتُ أن أحملَ نفسي على ما تكره..
كادت نفسي الملتاعة أن تُسافر إليك ..فـــ(إليك وإلاّ لا تُشدّ الرّكائبُ).
لم أذق من أجلك هذه الأيام طعمَ النّومِ إلاّ غِرَارًا ..مفتون أنا بك لحدّ الجنون .

رأيتك قبلَ البارحة وأنا بين اليَقَظَةِ والمنام ترفلين في فستان أبيض كفساتين نساء الأندلسالغارب..ابتسمتُ لك بودّ فأشحتِ عنّي بوجهك المُفعم بحمرة الخجل نحو السّماء، وأنا الذي كنتُ طامعًا في قولك : هيتَ لك ..فكان العكس إذ قالت لي عيناك : إليك عنّي ودونك حمّالات الحطب .

فتذكرت بعد استيقاظي أبا خالد النّميري حين تبع امرأة متنقّبة فلمّا أعرضت عنه قال:
فيا خَريدَةُ لقد كنتِ عندي عَرُوبًا أنْمُقُكِ وتَشْنَئِينا .!

بأبي أنتِ من عاقلة تُزهى بها الدّورُ وتزدانُ بها القصورالمُنيفة وتعتزّ بقدومها المدُن والقُرى..لا ترضى بالعيش مع رجل مُصابٍ بالأدب مخافةَ أن يسأم ويملّ ويسرع إليه الضّجر فيعرض عنكِ إعراضه عن اللغو والهذر ..ولكن هيهات، إن لم تكوني أنتِ الأدب برمّته فلا يوجد في الدّنيا أدب ..وربّ الكَعبة.

كنت فقيرًا قد تجاوزت العشرين بقليل، حينَ كان المالُ لا يحفل إلا بالأغنياء والسّادة والأشراف ..حينكنتُ أسترقّ النّظر إليك من بعيد كطفل يتيم حائر جائر عن القصد، محروم ضائع في مسارب الزّمن يبحثُ عن الهدف الذي من أجله يتنفّس بألم وأمل..وكنتِ لا تعلمين شيئا عن وجودي بينما كنت أعلمُ عنك كلّ التّفاصيل صغيرها وكبيرها ..

سمعني رجل ذات أصِيلٍ أقول أنا غريب ..فقال ساخرًا قاصدًا إياكِ: الغريبُ من لا توجد عنده الفاتنة..فازداد حزني ..كبّلني الشّجنُ ولعنتُ فقري وافتقاري إليكِ..
فكيفَ سأقنعك منذ اليوم أنّي لا أريدُ من الحياة سوى الحبّ والحقّ والجمال المُتمثّل في بهائك وجلالك …

إنّك والله ما علمتُكِ إلاّ سخيّةَ النّفسِ رضيّة السيرة تحفظين الودّ، وتُطعِمين الجائع، وتعطين السّائل وتغنين العائل، وتحمين الجار وتغيثين الملهوف …وتذهبين في توزيع المعرفة مذاهب الأكرمين ..

طال الغياب واشتدّ الشّوق وكان اللّقاء بك أجمل وسنردّد مع الأيام:

هل تذكرينَ لياليا بِتْنا بها ….لا أنتِ باخلةٌ ولا أنا أقنعُ
حلَلْتِ أهلا ونزلتِ سهلا ..ولا عاشَ من يهُملك بعد اليوم ..دمتِ طروبًا لقلبي المُعنّى ..

*****

*****

* ينبغي للباحث أن يكون يقظًا وهو يطالع الكتب المختلفة ذات الطابع المذهبي أو الحزبي الضيق، لاسيما في الحكم على الأشخاص، فمثلا سيجد البغدادي في كتابه الفَرْق بين الفرق ينفي صفة الإنسانية عن الجاحظ ويصفه بالخنزير، لأنّه أشعري والجاحظ كان معتزليا جلدا، وكراهية الأشاعرة للمعتزلة معروفة، وكذلك سيجد ابن منظور في لسان العرب يصف الجاحظ بأقبح الأوصاف لأنه كان شيعيا، والجاحظ كان يكره الشيعة، وفي فيض الخاطر لأحمد أمين سنجده يبالغ ويُمعنُ في مدح الجاحظ في مقالتين كتبهما من أجله، لأنّ أحمد أمين كان مغرما بالمعتزلة، فقط عقلاء أهل السنة والجماعة من ينصفون الخلْق كالذهبي مثلا حين تعرض لترجمة الجاحظ ذكر ما له وما عليه دون أن يبخسه حقه كما تحدّثنا في ذلك في أكتوبات سابقة ..ودائما نُذكِّر بأنّ المتحيّز لا يُميّز !

*****

* بعض الباحثين من أدعياء السلفية بالخليج، لا يتعاملون مع الشخصيات التاريخية بحياد، يذكرون مثلا ابن المقفع أو الجاحظ أو أبا حيّان التوحيدي فيأتون بكلام الذهبي عنهم جَرحًا، ويحجبون ما قال عنهم من مدح وثناء لأن ذلك لا يخدم بحثهم وتوجههم ..وهذا فكر انغلاقي صرف لا ينبغي أن يتمتع به باحث يحترم عقل القارئ !

*****

* بما أنَّني أتجوّل هذه الأيام بين فصول كتب التراث العربي القديم، لاسيما كتب الأدب منها، من أجل كتابي الكنّاشةالسملالية فقد وجدت أنّ أغلبها مكرّر ولا جديد عند أغلبهم إلا بعض التعليقات اليتيمة هنا وهناك، يجود بها المؤلّف على القارئ، وأروع هذه التعليقات تلك التي كُتبت بقلم الإمام أبي حاتم البُستي في كتابه (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)، لذلك أنصح غير الباحثين أن يكتفوا بكتاب واحد في كل فن من فنون المعرفة، وفي كل ضرب من ضروب العلم، فبدل أن تقتني مثلا عيون الأخبار والعقد لابن عبد ربه وزهرة الآداب للحصري والمحاسن والمساوئ للبيهقي فاكتفِ بواحد من هذه الكتب ففيها الكفاية فكلها مجرد تكرار لن تخرج منها بطائل ! ..وعلى هذه الكتب فقس !

*****

*أخي القارئ إذا كنت تمتلكُ نسخةً من كتاب (رسائل ابن حزم ) الواقع في مجلدين ضخمين بتحقيق د. إحسان عباس، فهو يغنيك عن كتاب (طوق الحمامة)، وكتاب (مداواة النُّفُوس وتهذيب الأخلاق) ! لأنهما موجودان فيه، فكثير من طلبة العلم فضلا عن غيرهم تجدهم يبحثون عن الطوق والمداواة في كتابين مُستقلين ضخمهما سُرَّاق المال والوقت بكثرة الحواشي والمقدّمات، لأنهم لا يعلمون بوجودهما في الرسائل، مع وجود الكتاب النّائم في مكتباتهم وقد علاه غبارُ الإهمال !
فنصيحتي لكل القرّاء الذين يصلهم كلامي هذا ألا يدخلوا كتابًا بين الرفوف إلاّ بعد قراءة مقدّمته وفهارسه  لأخذ فكرة مجملة عنه وعن مؤلّفه ومنهجه فيه !

*****

* اليوم قضيتُ سحابةَ يومي في قراءة مخطوطة ربيعية، كتبتها في بداية طلبي للعلم والأدب، كنت حريصا فيها على تسجيل كل شاردة وواردة وحكمة بليغة وبيت شعري سار مسير الشمس والقمر، ولم أَجِد في تذوقي للأدب من خلال تلك النقولات أي فرق بين ربيع الذي كنته وأنا ابن العشرين ونيّف، وربيع الآن في أواخر الثلاثين ..اللهم إلا بعض المراجعات الطفيفة التي كنت فيها واهما حينئذ أو جاهلا، وقد وجدت لذة شبيهة بلذة قراءتي لكتب نيكوسكازنتزاكيس حين اكتشفته أوّلَ مرة ..وقد ضحكت على نفسي المتحمسة كثيرًا حين وجدت نقلا عن طه حسين صدّرته بقولي: قال الحمار طه حسين ! ..أستغفر الله !

*****

*يقول ابْنُ قُتيبة في ( الشعر والشعراء ج 1 ص 64) :

فإنّي رأيتُ من علمائنا من يستجيدُ الشّعر السّخيف لتقدّم قائله، ويضعه في مُتَخَيَّره، ويُرذِلُ الشّعر الرّصين، ولا عيبَ له عنده إلاّ أنّه قيل في زمانه، أو أنّه رأى قائلَه !

قال ربيع : وهذا هو معنى ( المعاصرة حجاب) !

والمُبرِّد يردّ هذا التّفكير المريض بقوله في الكامل ج 1 ص 43:

وَلَيْسَ لقِدم العهد يُفضّل القائل، ولا لحدثان عهدٍ يُهتَضَم المُصيب، ولكن يُعطى كلّ ما يستحقّ !

أمّا الجاحظ هذا العبقري فإنّه يقول:

إذا سمعتَ الرّجلَ يقول: ما ترك الأول للآخر شيئًا فاعلم أنه ما يريد أن يُفلِح !

*****

*حين نقرأ للنّاقد اللبناني الفحل مارون عبود لا نشعر بأي إيديولوجيا معيّنة، علمًا أنّه مسيحي، بخلاف حنّا الفاخوري في كتابه تاريخ الأدب العربي، وجرجي زيدان في قصصه التي شوّهت تاريخ المسلمين، والمتحيّز لا يميّز كما يقال !

*****

* أطول ترجمة على الإطلاق في الكتاب العظيم الموسوعة (تاريخ بغداد ) ترجمة الإمام الهُمام أبي حنيفة النّعمان بن ثابت ، في ( المجلد 15 ص 444 إلى الصفحة 586 ) / طبعة دار الغرب الإسلامي …!

*****

* كتاب ( نَكْتُ الهِمْيَان في نُكَتِ العُمْيان ) للإمام الأديب صلاح الدِّين الصّفَدِي جمع فيه أكثر من ثلاثمائة ترجمة للعميان مع ذكر أخبارهم ونوادرهم وغير ذلك !

*****

*لو كان واصلُ بن عطاء المعتزلي من أهل السنة لكان له شأن عظيم كشأن الإمام أحمد، فقد اجتمع فيه من الخير والغيرة على الدين ما تفرّق في غيره ..عفا الله عنا وعنه !

*****

*****

*لا يمكن أن يمرّ عليّ يوم دونَ النَّظر في كتاب صيد الخاطر ! لعلاّمة بغداد في عصره، وحامل لواء الوعظ بلا مدافعة ..ومن حبّي الشَّدِيد لهذا الكتاب اقتنيتُ منه ثلاث نسخ بطبعات مختلفة ومازلت أنتظر نسخة ناجي الطنطاوي إذ هي الأفضل فيما بلغ إليه علمي ..والله أعلم !

*****

*كلّما حاولتُ أن أتخيّل السّعادة تمثلت أمامي صورةٌ لمكتبة أبي فِهْر محمود شاكر !

*****

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *