“قل هذا حكم زُفر ولا تقل هذا حكم الله” بقلم: عبد القادر دغوتي

لعل هذه المأثورات المنيرة، كافية لتقريب المقصود إلى الأفهام، وهي غيض من فيض. وأصلها سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فقد نبه إلى وجوب الاحتراز من التقول على الله عز وجل، بإضافة الآراء والظنون الاجتهادية إلى ذات الله العلية، بوصف تلك الآراء بأنها أحكام الله تعالى؛ لأن المجتهد لا يدري أيكون مصيبا لحكم الله في اجتهاده أم لا.
ففي صحيح مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا… (إلى أن قال): وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا”1.
وقد أورد ابن القيم رحمه الله هذا الحديث في باب من أبواب إعلامه، سماه “باب: النهي عن أن يُقال هذا حكم الله”. ثم قال: “وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أميره بريدة أن يُنزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله، وقال: فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك”، ثم قال ابن القيم: “فتأمل كيف فرَق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد ونهى أن يُسمى حكم المجتهد حكم الله”2.
ويروي ابن القيم عن شيخه ابن تيمية رحمهما الله، أنه قال: “حضرتُ مجلسا فيه القضاة وغيرهم، فجرت حكومة حكم فيها أحدُهم بقول زُفر، فقلت له: ما هذه الحكومة؟ فقال: هذا حكم الله. فقلت له: صار قول زُفر هو حكم الله الذي حكم به وألزم به الأمة؟! قل: هذا حكم زُفر ولا تقل هذا حكم الله”3.
ميزان الأصوليين
إذا وضعنا هذه المسألة في ميزان أصول الفقه؛ عرفنا وزنها الدقيق الذي ينفي كل غلو أو تخمين، فما ثبت بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة فهو حكم الله الذي لا معقب له، أما ما ثبت من غير هذا الطريق من استنباطات من نصوص ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة، أو ظنية الثبوت والدلالة معا، أو قطعية الثبوت ظنية الدلالة، أو العكس، أو ما ثبت عن طريق إعمال الرأي فيما لا نص فيه أصلا؛ فكل هذا إنما هي اجتهادات تحتمل الصواب والخطأ، وأصحابها مأجورون على كل حال -إن كانوا من أهل الاجتهاد طبعاـ، وهي حق في الظاهر عند أصحابها لا عند الله بالضرورة. فلا توصف بـ”حكم الله”، وإنما يقال عنها “مذهب فلان” أو “رأي فلان” أو “اختيار فلان”…
وأكتفي هنا بنقل بعض النصوص عن الإمام الشافعي رضي الله عنه، ولولا خشية التطويل لاستكثرت منها ومن أقوال غيره من أئمة الأصول الفحول، ولكن يكفي من القلادة ما يحيط بالعنق كما يقال.
ــ جاء في رسالته، في حديثه عن القياس: “قال: فمن أين يُقال بالقياس، فيما لا كتاب فيه ولا سنة ولا إجماع؟ أم القياس نص خبر لازم؟ قلت: لو كان القياس نص كتاب أو سنة، قيل في كل ما كان نص كتاب “هذا حكم الله”، وفي كل ما كان نص السنة “هذا حكم رسول الله”، ولم نقُل له “قياس”.
قال: فما القياس؟ أهو الاجتهاد؟ أم هما مفترقان؟ قلت: هما إسمان لمعنى واحد. قال: فما جماعهما؟ قلت: كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم، أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه إذا كان فيه بعينه حكم؛ اتباعُه، وإذا لم يكن فيه بعينه؛ طُلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد. والاجتهاد القياس. قال: أفرأيت العالمين إذا قاسوا، على إحاطة هم من أنهم أصابوا الحق عند الله؟ وهل يسعهم أن يختلفوا في القياس؟… فقلت له: العلم من وجوه: منه إحاطة في الظاهر والباطن. ومنه حق في الظاهر.
فالإحاطة، منه ما كان نص حكم لله أو سنة لرسول الله، نقلها العامة عن العامة. فهذان السبيلان اللذان يُشهد بهما فيما أُحل أنه حلال، وفيما حُرَم أنه حرام. وهذا الذي لا يسع أحدا عندنا جهله ولا الشك فيه”4.
إلى أن قال: “..وعلم اجتهاد بقياس على طلب إصابة الحق. فذلك حق في الظاهر عند قايسه، لا عند العامة من العلماء، ولا يعلم الغيب فيه إلا الله”5.
ــ وفي نفس السياق:” قال: إن هذا ليحتمل أن يكون كما قلت، ولكن ما معنى صواب وخطأ؟ فقلت له: مثلُ معنى استقبال الكعبة، يصيبها من رآها بإحاطة ويتحراها من غابت عنه، بعُد أو قرُب منها. فيصيبها بعض ويخطئها بعض. فنفس التوجه يتحمل صوابا وخطأ. إذا قصدت بالإخبار عن الصواب والخطأ قصد أن يقول: فلان أصاب قصد ما طلب فلم يخطئه، وفلان أخطأ قصد ما طلب وقد جهد في طلبه.
فقال: هذا هكذا. أفرأيت الاجتهاد، أيُقال له صواب على غير هذا المعنى؟ قلت: نعم، على أنه إنما كُلف فيما غاب عنه الاجتهاد، فإذا فعل، فقد أصاب بالإتيان بما كُلف وهو صواب عنده على الظاهر، ولا يعلم الباطن إلا الله..”6
خاتمة
إن التعصب للآراء والرجال والمذاهب والأحزاب ولغيرها مما يتعصب له المتعصبون، لهو نوع من الشرك؛ إذ المتعصب يقدس تلك الأشياء وينسبها إلى أكثر مما تستحق من قيمة، ويعليها على الحق الذي قد يكون ضدها.
وهذا خلل يترتب عنه آفات تفتت جسد الأمة، وتُضعف مناعتها، وتُذهب ريحها. والأمة أحوج ما تكون إلى ما يحييها ويقويها، والله المستعان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ــ صحييح مسلم، رقم:1731.
2 ــ إعلام الموقعين. 1/39.
3 ــ نفسه 4/176
4 ــ الرسالة ص:378-476.
5 ــ نفسه ص:479.
6 ــ نفسه ص:497 ــ498.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *