الإصلاح كلمة ذات حمولة فكرية ووظيفية عظيمة وجليلة، وذلك أن الإصلاح هو أعظم وظيفة وأصعب مهمة في تاريخ البشرية؛ لأنه يروم تغيير عقليات وتوجهات وأفكار، وتبديل معتقدات راسخة وعادات محكمة قد تكون كالطوفان أحيانا، والمصلح هو كمن يقف في وجه سيل جارف ويقف في وجه عاصفة هوجاء أحيانا، لذلك اختار الله لهذه المهمة صفوة خلقه من الأنبياء والرسل وأمدهم بتوفيقه وتأييده، فلو لم تكن هذه المهمة بهذا القدر من الأهمية والصعوبة لتولاها أساسا كل من هب ودب.
وأن يكون المصلحون من غير الأنبياء هنا تكون المهمة أصعب وأعقد؛ لتفاوت الطبيعة الإنسانية بين الأنبياء وغيرهم من البشر، ولتباين المؤهلات والإمكانيات الذاتية والموضوعية، لكن تبقى المهمة وسام شرف على صدور هؤلاء المصلحين الذين هم أيضا صفوة من خلق الله يكون الإصلاح مبدأ لهم في الحياة، فهو عندهم الشغل الشاغل والهم المسيطر على العقول والقلوب، لذلك لا يظن أي كان أنه على درب الإصلاح فدون تلك المسؤولية صعاب وعقبات كؤود كم تحتاج من همة عالية وإرادة قوية وصبر بلا حدود، يقوم على أساس الثبات على المبدأ ومواجهة الصعاب وعدم الاستسلام لمغريات الزمان وتقلبات الظروف، وعدم العزوف أو الضجر من كثرة المعيقات أو تأخر النتائج، وهذه الأشياء كلها توفيق وتسديد من الله قال تعالى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}.
فطريق الإصلاح ليست مفروشة بالورود ولا معبدة سالكة وإلا لم يقل الله لنبيه المصطفى ورسوله المجتبى {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل}.
تلك هي قصة الإصلاح، تلك الكلمة التي يكثر تداولها على الألسنة، وتدعيها فئات من الناس تنوعت مشاربها واختلفت مقاصدها، والأغرب في ذلك أن يدعي الإصلاح مفسدون بامتياز، ركبوا الصعب والدلول لنشر الفساد وإغراق الناس فيه بلا عودة، فتسلقوا سلاليم الإعلام والثقافة والتعليم والرياضة… واستغلوا الفضاءات العامة والخاصة ووظفوا كل الوسائل والتقنيات المتطورة، كل ذلك تحت مسمى الإصلاح، فيا عجبا!
في الحقيقة ليس هذا بغريب عنهم ما دام إمامهم الأعظم إبليس حامل راية الغواية يقول لسيدنا آدم وزوجه كما في سورة الأعراف: {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين}، هكذا يتقمص إبليس ثوب الناصح الواعظ الراغب في الإصلاح، ويسلك فرعون إمام الطغاة المفسدين من البشر نفس المسلك فيخاطب قومه قائلا كما في سورة غافر: {وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} هكذا؛ وكما يقولون وبجرة قلم يصبح فرعون مصلحا يحذر من إفساد موسى نبي الله عليه السلام.
أما المشركون من قريش فقد اتهموا سيد المصلحين نبينا محمدا عليه أفضل الصلاة والسلام بأنه يفرق بين المرء وزوجه، وأنه يقطع الأرحام ويفسد علاقات الأسر… تلك إذن قصة تعيد نفسها، فالمفسدون يمارسون التضليل ويقلبون الحقائق نشرا للفساد إلى آخر رمق، وكذلك المصلحون وراءهم بالمرصاد يفضحونهم ويكشفون باطلهم ويبصرون الناس بالحق ويهدونهم إلى صراط الله المستقيم بالحجج الظاهرات البينات دون كلل ولا ملل ولا خنوع ولا استسلام، يعرفون ما يريدون ويقصدون ما يريدون.
فدرب الإصلاح طويل وصاحب النفَس القصير ليس من أهل هذا الشأن، فصبرا أيها المصلحون لأن لكم إحدى الحسنيين، ويكفي أن يصدق فيكم قول القائل:
إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذر.
ستبقى كلمة الإصلاح تجتر بلا حدود، وكل يدعي وصلا بليلى وهي لا تقر لهم بذاك، فمن زمان ونحن نسمع عن إصلاح السياسة وإصلاح الإدارة وإصلاح الاقتصاد وإصلاح التعليم وهلم جرا… فإذا بنا وكأننا نتابع مسلسلا لا نهاية له، بحثا عن هذا الإصلاح الذي طال انتظاره وكأنه مهدي السرداب.
ففي كل مرة نمني النفس بعد خطابات رنانة فإذا بنا نكتشف أننا كنا نستمع إلى معزوفة مألوفة، مع مرور الوقت لم تعد تطرب أحدا. ويستمر مسلسل الإفساد لأن من تحمل مسؤولية الإصلاح في هذه المواقع الحساسة لم يمتلك زمام المبادرة ولم يكن مؤهلا بما يجعله مصلحا صاحب مبدأ وإرادة وعزيمة يحمل من الهم على دينه ووطنه ما يجعله أهلا لتلك المسؤولية.
والإشارة إلى الدين ليست عبثية، لأن العقيدة هي المحرك الأساسي والدافع القوي لعملية الإصلاح كيفما كانت هذه العقيدة، وفي بلاد المسلمين ما دام تغييب العقيدة كأساس الإصلاح مستمرا، وغياب البطانة التي تتقاسم نفس المبدأ والإرادة والعقيدة يبقى الإصلاح بعيد المنال.
ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، كلمة قالها الإمام مالك رحمه الله وأول من غيبها بل احتقرها واستهزأ بها أولئك الذين يدعون زورا انتسابهم لمذهب مالك.
آه لو كنا حقا على مذهب مالك..