هل الأشاعرة هم أهل السنة المحضة؟ وهل عقيدتهم هي عقيدة فحول علماء الأمة؟ 1/2 محمد بوقنطار

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله تعالى الذي قال سبحانه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} الأنبياء:18
والصلاة والسلام على رسوله الذي بلغ الرسالة فوفى؛ وأدى الأمانة فكفى؛ ونصح الأمة فصفى؛ وكفى به متبوعا متبعا؛ والحمد لله على نعمة الاتباع وترك الابتداع.
عندما تكلم أهل العلم المعتبرين من سلف هذه الأمة عن مفهوم التواضع بين اللغة والاصطلاح، ميزوا بين درجاته ووقفوا على اعتبار منزلة التواضع للدين من أعلى درجات التواضع، وعرفوها في هذا المقام بأنها على الحصر: «الانقياد لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والاستسلام والانقياد له بحيث لا يعارض بذوق أو حال أو قياس أو فلسفة أو كلام».
لم يفتهم أن يفرعوا عن هذا المفهوم الأصل ذكر من شذ عن هذه الخصيصة في مدارج العقيدة والفقه والسلوك والسياسة من أهل الكلام والتعصب المذهبي والمتمصوفة القبورية والمعتدين في الحكم والسياسة.
وجدير بالذكر والتنبيه أن يعرف المرء بعد بلاء أمر وخبر أن الانحراف في العقيدة كان بمنزلة أم الخبائث الذي انبنت على ثمالته كل الانحرافات التي مست الفقه والسلوك والسياسة.. وما صنم الوصاية الذي تجلد به ظهور العلماء والخطباء ونعني به «دليل الإمام والخطيب والواعظ» ببعيد عما ذكرناه آنفا، ولربما تساءل متسائل ولا أنكر عليه منكر سر العلاقة بين التوطئة بذكر التواضع وما يضاده من كبر وعناد؛ وبين مقصد الرد على دعوى أن الأشاعرة هم أهل السنة المحضة وسواد الطائفة المنصورة؛ وأن العقيدة الأشعرية هي التي تواطأت على العض عليها قلوب الأئمة وأفئدة ذوي الألباب من فحول أعلام الأمة.
ولربما كان الجواب -ولو أنكر منكر- أن الكبر هو الذي جعل البقل يغير الشكل، وهو الذي حال بين الدكتور والفيلسوف، والمنطقي والأصولي، والنحوي النحرير وإمكانية أن يقبل بأن يكون جنبا إلى جنب يعتقد بعقيدة باقي المكلفين من الذين وسعتهم حجة الإرسال والتنزيل من عوام الناس وأغمارهم من الذين صدّقوا الخبر وأطاعوا الأمر في غير معارضة وتنطع بزعم معقول أو ظن قياس أو خرافة ذوق أو بغي سياسة، من الذين فهموا من ذلك البث المتكرر المتعدد المتنوع لأسماء الله وصفاته بأنه بث يرمي إلى إحاطة القلب البشري بهالة من الإجلال والتعظيم والمحبة، بحيث تكون هذه الهالة من ذلك الخليط المتسامي قادرة على ربط المخلوق بخالقه برباط وثيق متين لا تنفصم عراه ولا ينقطع وصله ولا يقعد سبيله حتى يقول أحدهم «لن نعدم خيرا من رب يضحك».
وهذا ما لم تستطعه الفرق الضالة التي تخبطها مس الفكر اليوناني والمنطق الإغريقي وغيره من وافدات التأثير الحائف، فحولت قضية الأسماء والصفات إلى جدل ذهني وقضايا فلسفية مشكلة ناشزة، ثم بعد ذلك أفرغتها من شحناتها التعبدية التربوية الهادفة فأردتها ضحية قضايا ذهنية باردة لا حرارة فيها، سليبة لا حياة لها ولا تأثير.
ولعلنا بعد هذا نحب أن نوجه الكلام في سياق مجراه لنقرر أننا نكتب بداية لراغب على الفطرة لا عنها، ليتأمل هذا الكلام غير المركب فيوفقه الله إلى ما يحبه ويرضاه فينجيه سبحانه من التلفيق إلى التوفيق، ومن الاستصراخ بالتضليل إلى الاستنصار بالدليل، الذي رأس سنامه أن يجل العبد مولاه وينزهه سبحانه عن تهمة مخاطبة معشر المكلفين الملتزمين بميثاق العبودية بما لا معنى له في معهود لسان الأميين تعالى الله عن هذا علوا كبيرا.
ولذلك كان التسليم للقوم عند قولهم أن الأخذ بظواهر النصوص يقتضي التشبيه، وتشبيه الخالق بالمخلوق كفر بالاتفاق، يدفعنا دفعا لنتساءل: كيف يمكن أن يستسيغ مؤمن بله مسلم عاقل غياب البيان والتفصيل والاستدراك النبوي، وأن يتأخر توجيهه المغمور في ثوب التحذير عن ساعة الحاجة إليه في هذا المقام العظيم والمنعرج العقدي الخطير؟
بينما نجد النبي عليه الصلاة والسلام كما في شهادة سلمان رضي الله عنه حاضرا بجوامع الكلم وعظيم البيان حتى في أمور التخلي والخراءة وليست هذه بالاتفاق أصل أصيل ولا ركن ركين تنهدم بانهدامه عرى الدين إذا ما سكت النبي عن مثل هكذا تبيين.
ويبقى قولهم أن العقيدة الأشعرية هي عقيدة السواد الأعظم من أمة الاستجابة قول فيه ما فيه من المغالطات والمزايدات الجريئة التي لا يلامس ردف كيفها واقع كمها في حقيقة معشر المكلفين المخاطبين بالشرع، اللهم إن كان المتخرص بهذا يقصد بالسواد الأعظم عدد الملتحقين والمتحلقين تحت ظل سلطة الرسمي، فإن الواحد حينها يعدل ما يعدل في مقام الاستبداد بالرأي ومطلق الإقصاء لمخالفيه سيما في زماننا حيث الإعلام يلعب دوره المنوط به على أتم وجه وكفاية مطلوب.
وإلا كيف للجَـدِّ والجدة والمقلد والمقلدة وهم بمنطق العد والإحصاء يشكلون السواد الأعظم من أمة الدعوة والإجابة لا قليل العلماء وأقل المتكلمين والفلاسفة في دائرة التكليف ومقاصدية بلوغ الحجة عبر هبتي التنزيل والإرسال مصداقا لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} بضابط قوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}، أن يفهموا كلاما مركبا عده القوم أول واجب على العبيد وذلك من قبيل الكلام عن الجوهر والعرض والنظر المخصوص الذي هو النظر في الأعراض وأنها لازمة للأجسام وأنه يمتنع وجود الأجسام بدونها، وطرق إثبات حدوث الأجسام وإمكانها وإثبات حدوث الجواهر وإمكانها وإثبات حدوث الأعراض وإمكانها، وكذا إثبات أن الأعراض لازمة للأجسام فيمتنع وجود الأجسام بدونها، وقولهم ما لا يخلو من حوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها، ودون فهم هذا المنهج وتفهيمه لعوام المكلفين وعموم الناس خرط القتاد.
ولما خرج الأمر على هذه الشاكلة والمنوال اضطرب باللازم المتقدمون من السادة الأشاعرة في إيمان المقلد ومنزلته حتى رماه بعضهم بالكفر، بل دار الرمي بين النص على فسقه وعصيانه وكفره وليس هذا من بدع قولنا ولكنه تتبع مع شرف إحالة، حيث يرجع في هذا إلى «أصول الدين» للبغدادي وشرح السنوسي على «أم البراهين» وشرح «بدء الأمالي» لأبي بكر الرازي الحنفي و«التمهيد لقواعد التوحيد» لمحمود بن زيد اللامشي الماتريدي و«المسايرة» لابن همام الحنفي وشرحها «المسامرة».
وصدق ابن النفيس إذ قال: «ليس إلا مذهبان مذهب أهل الحديث أو مذهب الفلاسفة، فأما هؤلاء المتكلمون الأشاعرة والمعتزلة فقولهم ظاهر التناقض والاختلاف»، ولسان الصدق هذا سيركبه الفيلسوف ابن رشد وهو يقول في كتابه «الكشف عن مناهج الأدلة عند الأشاعرة»: «ولولا النشأ على هذه الأقاويل وعلى التعظيم للقائلين بها لما أمكن أن يكون فيها شيء من الإقناع ولا وقع بها التصديق لأحد سليم الفطرة».
ولننتقل إلى عمدة القوم في باب المحاجة وجبر سقيم المعتقد ونعني به شريطهم الذي شرخه كثير الاستعمال، شريط سرد رسوم وأسماء فحول علماء الأمة الذين انتصروا للمذهب الأشعري والعطف بعد السرد بنبز المخالفين بالحشوية والمجسمة والمشبهة ومن ثم لعب دور رمتني بدائها وانسلت وإلا فهم المعطلة وهم المشبهة على الحق والصدق لا من أثبت ألفاظها وحقيقتها بغير تشبيه ولا تمثيل، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم في صواعقه: «ولهذا لا يأتي الرد في القرآن على هذه الفرقة التي انتصب لها هؤلاء فإنها فرقة مقدرة في الأذهان ولا وجود لها في الأعيان».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *