لا يزال للفول الفاسد كيّال منا مارد عبد المغيث موحد

اعتدنا بمفهوم ما أن نتكلم بإطناب وإيغال عن الفول وفساد بضاعته وظلم عرضه، وربطنا المرة تلو الأخرى ظلم العرض بتطفيف المطففين وترف المترفين ونزق العارضين، وكنا على طول خط النقد ودرب المواجهة لماما ما نتكلم عن هالة الراغبين في الاقتناء الوفيين للإقبال على طلب ذلك الفول النيئ الفاسد، متناسين عن غير عمد علاقة التلازم بين الفولة وكيالها، سيما وكما قيل بالتكني والاستعارة أن: لكل فولة كيال.
والطبع المريض ميال إلى ما يشاكل مقتضياته وما يجانس ميله وجنوحه؛ والكل في الأخير يرسم لوحة عبث العرض وجوقة الطلب، وكما تعددت البضاعة تعدد بتعددها طابور الراغبين في التلذذ بمقبوحات هذا السوق في يوم جمعه الحاضر الذي هو أزكى وأجدى عند رواده من انتظار سراب اليوم الآخر؛ واقتحام عتبة المكاره التي حفت بها جنبات سبيل الاستقامة الموصل إلى مأمول النجاة بامتياز مشقة الاعتياد وغربة الانقياد.
وهكذا فإذا كانت في هذا السوق خمرة تولغ بلا حدود؛ ورقص وغناء وخنا عطاء أهله غير مجذوذ فلأن عمار هذا السوق سكارى وأهل فن وعناد وصدود، وحتى لا يتكلس حبر المقصود فقد سبقنا الكثير من شرفاء هذا الوطن العزيز الذين كان انتسابهم إلى الدين والوطن انتساب غيرة ومسؤولية؛ وحمل همّ شابَت من وطئة ثقله الدوائب؛ وتصلدت من غمه النواصي.
سبقنا هؤلاء الشرفاء بالجنان واللسان وقلم الأنامل والأركان إلى رفع عقيرة مناهضة كل أشكال الترف العلماني واللهو الحداثي الذي فرض علينا لأسباب لا تغيب عن كل ذي لب باسم الثقافة والحداثة والانفتاح والتعارف والتلاقح الحضاري.
وكان من جملة الكثير الذي فرض علينا قسرا المهرجانات؛ ومركز ثقل كيانها المترامي الهيئة ذلك هو مهرجان الموازين الخاسرة، وقد كان ولا يزال خط المواجهة ودرع المقاومة عمودي المنحى إذ توالت الغارات وترادفت كرات هؤلاء الشرفاء في اتجاه نقد عصابة المنظمين والحاضنين والمدافعين، وقلما تفلت اللسان ومال القلم إلى الرمي باللائمة على معشر المريدين الذين يمتلأ بهم ويضيق محشر منصات هذا المروق الحداثي؛ والاغتيال الأخلاقي؛ والانحراف السلوكي.
مريدون يخرجون من بيوت الأبوة ومنازل الحرمة؛ وفتيات مائلات مميلات في زهرة العمر لا يسألن عن وجهة المقصد والليل قد أدلج إلى منتصفه؛ والذئاب البشرية المتربصة بالأعراض قد غادرت محيطها؛ وتحررت مقادير توحشها؛ وتكشرت أنياب تهارشها؛ وعادت في هذا الجو المقيت الجاهلية الإنسانية إلى وأدها؛ وعربدة صعاليكها؛ ووهج مجونها.
ورُبطَت مكونات البيت بمن غادره من رعاياه بخط نقل مباشر ينقل لمن تخلف أو أحب أن يتفرس باحثا عن بناته وأبناءه سهرات شاكيرا وهيفاء وقائمة البرامج تطول؛ ويطول معها نزيف المال العام وخزائن المال الخاص المسروق والمحجوب عن الرقابة الضريبية التي يشرب نخبها الفقير والمحتاج في أباريق الشاي والسكر وخليط الزيت والطحين المدعوم ورسوم التطهير وتعريفة النهوض بالفضاء السمعي البصري والقائمة في هذا الباب تطول وتطول.
لقد حدثني بعض الإخوة وقد كان على سفر قافلا من مدينة الجديدة إلى مدينة المسقط مدينة سلا وقد تزامن سفره مع حفل “شاكيرا” حيث وكما يحكي تقطع حبل السفر، وانغلقت المنافذ المتفرعة عن الطريق السيّار، وتعطلت مصالح الناس وكادوا يبيتون في العراء على متن سياراتهم، وكم كانت المفاجئة كبيرة بعدما علم هؤلاء المحاصرون على أن السر والسبب فيما وقع لم يكن هجوما إرهابيا، ولم تكن حادثة سير مميتة، ولم يكن طوفانا بحريا جارفا إنما كان السبب بكل بساطة حزن وأسى وتأبين الإقبال الجماهيري الكبير على حفل المسماة “شاكيرا”!!
أي صورة يا ترى وأي لوحة سريالية وأي خاطر وأي انطباع وأي ارتسام حملته هذه السافرة في مخيلتها عن هذا الشعب وعن هذا الحضور؟
وهل يا ترى فكرت هذه الساقطة في غمرة ذلك الانطباع أن تربط بين الحضور وبين الإسلام وتراجيديا حلاله وحرامه؛ وحجابه ونقابه؛ وسدود ذرائعه التي تحول بين ذكرانه وإناثه؛ وحصول أي تفاعل أو اتصال أو تزاحم خادش للحياء والمروءة والعفة؟
هل فكر عاقل وهو وسط تلك الحشود الغثائية عن حجم ذلك الغبن الفاحش الواقع بين ما قدمه الحاضرون من دينهم ودنياهم وما أعطته وقدمته هذه العارية من جود الأرداف وسخاء الجيوب والخواصر السافرة؟
وهل فكر عابث وهو يساهم في تأثيث جنبات هذا المروق عن الجدوى والنفعية والتقدم والمعاصرة التي ندفع في سبيل أيامها الهالكة للحرث والنسل الماء الزلال لنقتني سراب الأغلال التي تقعد سبيل سيرنا وسيل كرنا الذي كانت تخشى لقياه الحضارات المتاخمة لأرضنا التي كانت لا تأفل شمسها هناك إلا وتشرق هنا؟
وإننا عند هذه النقطة من المطارحة نود أن نسأل اعتباطا:
ماذا كان يقع لو أن السرادق نصبت والمنصات أزلفت والعطايا أعدت وبعد هذا عرض فول القوم لكن الكيّال تخلف وغاب عن الحضور؛ قد أخذته العزة لدينه ودنياه؟
ماذا كان سيقع لو أن شاكيرا عرضت بضاعتها فلم تجد لعرضها طالب؛ ولا لرقصها راغب؛ أكانت تعيد كرة المجيء وكرة العرض إذا ما أقيم على غير استحياء جمع موازين خاسر آخر في سنة قادمة، نبدأ أولها بإنابة وتضرع وصلاة استسقاء، ونوقع موسم حصادها بشكر الجاحدين وتنطع المارقين وعبث المترفين.
وأخيرا أرجو أن أكون صادقا محقا إذا ما أنا أرجعت رواج البضاعة البوار إلى وجود الراغب والطالب في سوادنا وبين ظهرانينا، ولعل من حسنات التسليم بهذا صدقا وحقا أن يقف المرء على تهافت نظريات الإصلاح التي تبنتها تيارات إسلامية استبطأت طريق التدبير النبوي لإدارة الأزمة، حتى صارت دعوى التوحيد والتقعيد للأخلاق الفاضلة هروبا من المواجهة وركونا إلى السلبية وخطوات إلى الوراء في سبيل خطوة إلى الأمام، فكان أن غادر الدعاة إلى الله خندق الإصلاح تحت بارقة الأقلام العلمانية المتربصة من جهة، ومحاصرة الاتجاه الرسمي لمنابر الصدع بالحق بدعوى تجاوز الحدود المسموح بها في توصيات (دليل الإمام والخطيب والواعظ)!!
وهي على أي تجعل الثلاثة في حالة انفكاك وانعزال عن قضايا الفرد والأسرة والمجتمع؛ فلا تستغرب بعد هذا الانفكاك حصول ذلك المغنم؛ وحضور ذلك الغثاء؛ الذي عطل الحركة؛ ومحق البركة؛ وجاء كنتيجة فعلية لعزل أهل الصلاح عن وطيس المعركة؛ كما قال العلامة ابن الوزير: “ولو أن العلماء تركوا الذب عن الحق خوفا من كلام الخلق لكانوا أضاعوا كثيرا وخافوا حقيرا”.
وماذا عساه أن يكون بعد هذا الضياع وذلك الخوف إلا عويل غرائز موبوءة؛ ونباح شهوات مسعورة توقع على ذلك الحضور السالف ذكره بامتياز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *