مرجعية الإصلاح.. رشيد مومن الإدريسي

شعار الإصلاح شعار أُفسد معناه في نفوس عموم الناس في غمرة الأحداث هنا وهناك وهنالك)!(، وهذا من أسوأ إفرازات المرحلة الراهنة حيث تم تهميش مفهوم الإصلاح الشرعي وراء الظهور مع تقديم معنى ضيق ومحدود جدا -على ما فيه- بأنه الإصلاح الحقيقي)!!(، والذي يؤلم أكثر في خضم ما يجري انسياق بعض أهل الدين ومن يُتوسم فيهم الخير خلف ذلك)!!!(، وصدق من قال:
نُرَقِّع دُنيانا بتمزيق ديننا *** فلا دِينُنا يَبْقَى ولا ما نُرقع1
وليعلم أنه عند إضاعة الواجبات وهضم الحقوق وإثارة العواطف وانتشار الظلم؛ تضطرب الأحوال، وتتحفز النفوس للإصلاح، ولكن لهذه النفوس أدواء وعلل، ولله تعالى سنن شرعية وكونية، فالمصيبة العظمى أن تسيطر على دعوة الإصلاح أنظار وتصورات تخالف سنن الله تعالى ومراده الشرعي في نهج التغيير، هذا مع تتابع الناس على ذلك)!!(، “فإن الناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض”2، والمُوَفَقُ من يُبصر حقيقة المرض، ويَعرف كيف يتعامل وفق المسلك الأثري مع ذلك وما هو عرض.
ولذا فمن المهمات في دعاوى الإصلاح تحديد المرجعية الصواب والتي تتمثل في الرجوع إلى السنة والكتاب، بعيدا عن أسباب الخراب وذل التراب، فهناك من هو مصلح يريد الإصلاح حقيقة، وهناك من هو مقيم على الفساد والإفساد، والضابط الذي يميِّز بينهما هو كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وما كان عليه الصحابة الكرام، إذ الإصلاح كله مُضَمَّن فيما جاء به الشرع أو دل عليه وأرشد إليه أو قبله، وعليه فمن زعم الإصلاح بما يخالف الشرع معتمدا على مجرد عقله فهو قائم على الإفساد وإن ادعى غير ذلك، لأن العقول وإن اهتدت إلى ما فيه بعض الصلاح والإصلاح في بعض الأمور، لكنها لا تستقل بإدراك الصلاح كله في الأمور جميعها.
قال العلامة محمد الخضر حسين رحمه الله: “في فطرة الإنسان قوة يعقل بها طرق الصلاح والفساد ويفقه بها الحق والباطل، ولكن هذه القوة العاقلة لا تستقل وحدها بتمييز المعروف من المنكر، وليس من شأنها أن تطلع على كل حقيقة ولا أن تدبر أعمال البشر على نظام لا عوج فيه فإنها -وإن بلغت في الإدراك أشدها- قد تنبو عن الحق، ويعزب عنها وجه المصلحة، ولا تهتدي إلى عاقبة العمل، وربما ألقت على الحسنة نظرة عجلى فتحسبها سيئة، وقد يتراءى لها الشر في شبه من الخير فتتلقاه بالقبول”3.
فـ”الإصلاح هو السعي في إصلاح عقائد الناس وأخلاقهم، وجميع أحوالهم، بحيث تكون على غاية ما يمكن من الصلاح.
وأيضا يشمل إصلاح الأمور الدينية، والأمور الدنيوية وإصلاح الأفراد والجماعات وضد هذا الفساد”4.
أما الصلاح فهو “أن تكون الأمور كلها مستقيمة معتدلة آخذة سبيلها الذي سنه الله مقصودا بها غاياتها الحميدة التي قصد الله إليها فأمر الله بالأعمال الصالحة، وأثنى على الصالحين، لأن أعمال الخير تصلح القلوب والإيمان، وتصلح الدين والدنيا والآخرة، وضدها فساد هذه أشياء”5.
وممَّا يُشَرِّفُ الإصلاحَ الرباني ويجعله آيةَ الصَّلاح ودليلَ الفلاحِ أنَّ اللهَ تولاَّه بنفسه استحقاقًا وفضلاً، ونسبَه إلى نفسِه الكريمةِ صفةً وفعلاً، وحملَ عليه هذا الإنسانَ حثًّا وترغيبًا ليكون لرسالته أهلاً، ومن هُنا يتبيَّن مَدَى التَّلاَزُم الموجودِ بين الصَّلاح والإصلاح، وكلاهُما أَشَادَ بهما القرآنُ بحيث لا يَنْفَكُّ أحدُهما عن الآخر؛ لأنَّ الصَّلاح يكون في النَّفس أوَّلاً ثم يتعدَّى إلى الإصلاح للنَّفس، وبوجُودهما تكتملُ الفضيلةُ ويؤولُ التَّغيير إلى استقامةِ الحال.
لكن في الإصلاح معنًى زائدًا على الصَّلاح، وهو ما يحصُل فيه منَ النَّفْعِ المتعدِّي بخلاف الصَّلاح الَّذي قد لا يتعدَّى النَّفع القاصر، وإن كان مِن لازمِه أن يُؤَدِّيَ إلى الإصلاح؛ لأنَّه ثمرةٌ له فتأمل.
فالله تعالى “أمر بالصلاح والإصلاح وأثنى على المصلحين، وأخبر أنه لا يصلح عمل المفسدين6، فيستدل بذلك على أن كل أمر فيه صلاح للعباد في أمر دينهم ودنياهم، وكل أمر يعين على ذلك فإنه داخل في أمر الله وترغيبه، وأن كل فساد وضرر وشر، فإنه داخل في نهيه والتحذير عنه”7.
فالإصلاح الحقيقي يشمل كل ما له تعلق بأمر الدين، ويستوعب جميع شؤون الدنيا، مع التنبه هنا إلى أمر غاية في الأهمية وهو أن الإصلاح الدنيوي وسيلة والديني هو الغاية8 بخلاف ما عليه )غلاة المدنية(!! الذين يعتبرون أي إنزال للمدنية المادية إلى مرتبة الوسيلة والتي هي دون الإيمان والأعمال الدينية أنه يصب في إلغائها مع أن الأمر على خلاف ما يتوهم!
فالمقصود إذن مراعاة سلم الأولويات حقا وصدقا، ذلك أن المقولة المحورية في خطاب غلاة المدنية هي )أولوية الحضارة( بمعناها الدنيوي المجرد، أما المقولة المركزية في الخطاب الشرعي فهي)أولوية تحقيق العبودية( بمعناها الشامل، والتي يندرج فيها ما يُقيم الحضارة بالمفاهيم الإسلامية، وبحسب منزلتها في )سلم النصوص الشرعية( فتأمل وبالعلم تجمل.
فإن المغالاة في قضية تحقيق العدل الدنيوي العام في دنيا الناس قد يوقع البعض -وقد وقع- في اعتقاد أن المقصود من النبوة والرسالة تحقيق عدل الدنيا فحسب وهذا من تقريرات الفلاسفة كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: “..ومما يبين فساد قولهم )أي: الفلاسفة( أنهم يزعمون أن المقصود بالرسالة إنما هو إقامة عدل الدنيا” 9.
ومن خلال ما سبق نقرر أنه “ما ضَعُف المسلمون إلا لأنهم خالفوا كتاب ربهم وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وتنكبوا السنن الكونية التي جعلها الله بحكمته مادة لحياة الأمم ورقيها في هذه الحياة، فإذا رجعوا إلى ما مهده لهم دينهم، وإلى تعاليمه النافعة وإرشاداته العالية، فلا بد أن يصلوا إلى الغاية كلها أو بعضها”10.
قال الإمام الماوردي رحمه الله: “..الدين أقوى قاعدة في صلاح الدنيا واستقامتها، وأجدى الأمور نفعا في انتظامها وسلامتها11، ولذلك لم يُخْلِ الله تعالى خلقه مذ فطرهم عقلاء من تكليف شرعي، واعتقاد ديني ينقادون لحكمه فلا تختلف بهم الآراء، ويستسلمون لأمره فلا تتصرف بهم الأهواء”12.
فلا سبيل لأحد يدعو إلى الإصلاح حقيقة إلا بالرجوع إلى الشرع والركون إليه والانطلاق منه، وأما خلاف ذلك فهو سير في طريق الفوضى والضياع، والفرقة والنزاع، مع العلم أن أصل كل إصلاح أساسه صلاح وإصلاح الأنفس مصداقا لقوله تعالى: )إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ(، فإن الغيث وإن كان صالحا في ذاته لكنه يحتاج إلى أرض خصبة فينبت فيها النبت الطيب فيأتي أكله كل حين بإذن ربه.
ولأجله كانت دعوة الناس إلى أصول دينهم وإصلاح أحوالهم عقيدة وعبادة وأخلاقا هو ملاك الأمر13.
ويعجبني في هذا الصدد كلمة هادئة ومهمة غاية للعلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله قال فيها: “فإننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها، عن علم وبصيرة، وتمسكا بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا من النصح والإرشاد، وبث الخير والثبات على وجه واحد، والسير في خط مستقيم، وما كنا لنجد هذا -كله- إلا فيما تفرغنا له من خدمة العلم والدين، وفي خدمتهما أعظم خدمة، وأنفعها للإنسانية عامة.
ولو أردنا أن ندخل الميدان السياسي14 لدخلناه جهرا، ولضربنا فيه المثل بما عرف عنا من ثباتنا وتضحياتنا، ولقدنا الأمة -كلها- للمطالبة بحقوقها، ولكان أسهل شيء علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها، وأن نبلغ من نفوسها إلى أقصى غايات التأثير عليها، فإن مما نعلمه -ولا يخفى على غيرنا- أن القائد الذي يقول للأمة: )إنك مظلومة في حقوقك، وإنني أريد إيصالك إليها( يجد منها ما لا يجد من يقول لها: (إنك ضالة عن أصول دينك، وإنني أريد هدايتك(.
فلذلك تلبي له كلها…
وهذا يقاومه معظمها…أو شطرها!
وهذا كله نعلمه، ولكننا اخترنا ما اخترنا لما ذكرنا وبينا.
وإننا -فيما اخترناه- بإذن الله راضون، وعليه متوكلون”15.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. مسند إبراهيم بن أدهم 49.
2. قاله شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 68.
3. الدعوة إلى الإصلاح 19.
4. قاله العلامة السعدي رحمه الله في أصول التفسير وكلياته؛ ملحق بتيسير الكريم الرحمن 5/450 بتصرف يسير.
5. القواعد الحسان لتفسير القرآن؛ ملحق بتيسير الكريم الرحمن 5/568.
6. قال تعالى: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين)، آية من كتاب الله فيها راحة المؤمن، وطمأنينة لقلبه، وصفاء لعقله.. ذلك لأن عمل المفسد لن يكون له استمرار أو فلاح، ولن يمضي معه عمل حق صراح، بل سيذهب ويذوب فلا يؤوب..
7. القواعد الحسان؛ ملحق يتيسير الكريم الرحمن 5/488.
8. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “ومعلوم أن الغايات أشرف من الوسائل” مفتاح دار السعادة 1/133.
9. الصفدية 2/238.
10. وجوب التعاون بين المسلمين للعلامة السعدي رحمه الله 26.
11. قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: “أيها الناس أصلحوا آخرتكم تصلح لكم دنياكم، وأصلحوا سرائركم تصلح لكم علانيتكم” حلية الأولياء 5/266.
12. أدب الدنيا والدين 161.
13. ولذا ألف العلامة محمد الخضر حسين رحمه الله رسالته الفائقة التي سماها “الدعوة إلى الإصلاح على ضوء الكتاب والسنة وعبر تاريخ الأمة”.
14. يقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله: “..فالسياسة العادلة على رسم الشريعة المطهرة مرتبطة بالدين ارتباط الروح بالبدن، سواء كانت سياسة الوالي وتدبيره للحكم مع من ولاه الله عليهم، أو مع الكافرين من حربيين، وذميين، ومعاهدين.
ومن تأمل سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وسيرة الخلفاء الراشدين وجدها جارية على إقامة العدل والسياسة في أمور الناس في دينهم ودنياهم.
وهذا في السياسة الإسلامية العادلة. لا في سياسة المكر والغدر ونقض العهود والخيانة والجور والظلم فإن الإسلام منها براء” معجم المناهي اللفظية 570.
15. جريدة “الصراط السوي” عدد رمضان سنة 1352- رقم:15.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *