اعرف كتابك -3- د. يوسف مازي باحث في العلوم الشرعية خطيب مسجد الزيتون – بني ملال

القرآن الكريم فعل جار في الواقع، وتأثير مستمر في النفس وحدث جالب لأثره في التاريخ.
إنه إنجاز حتمي، معادلته:
كلمات الله = فعل الله، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82)} [سورة يس].
وهكذا يكون القرآن فهرست الوجود وديوان الكون كله، {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [سورة الأنعام].
{مِن شَيْءٍ} نكرة أفادت ولا زالت تفيد العموم والشمول الذي يسع العمران البشري كله، وعالم الملك والملكوت. لهذا قال جل في علاه: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (104)} [سورة الأنعام].
وقال تعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَـٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)} [سورة الأعراف].
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَىٰ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)} [سورة القصص].
وقال جل وعلى: {هَـٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)} [سورة الجاثية].
بصائر من البصيرة، والبصيرة هي ما كانت العرب تثبتها على أبواب البيوت لتنظر من خلالها إلى خارج المنازل.
وهكذا آيات القرآن! إنها بصائر مكبرة تضاعف من عامل إبصار الوجود ليبدو كبيرا ما شاء الله أن يكون عليه؛ وبهذا يكون القرآن خطابا وليس نصا، وكلمات وليس أقوالا. فالقول هو كل ملفوظ بمعنى أو بغيره، أما الكلام فهو اللفظ المفيد بالوضع. ولم أقل مركبا لأن الراجح عندي أن إعجاز القرآن بحرفه لا فقط بنظمه أو بكلماته، وهذا من معاني الحروف المقطعة في بداية السور.
وهو سر بداية أول الوحي بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [سورة العلق].
فـ: إقرأ هنا من معانيها الضم والجمع من قرى الشيء أي جمعه، بدليل قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} [سورة القيامة].
ومنه تكون بصائر القرآن (آياته)، بالإضافة إلى معنى الإبصار، جامعة لشتات الكون وأسرار الحياة، وناظمة لخيط المخلوقات… لكن بشرط: {بِاسْمِ رَبِّكَ} فلا إبصار ولا جمع ولا ضم إلا بِاسْمِ الرب الذي خلق كل شيء وأنزل الكتاب الذي ما فرط في شيء: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [سورة الأنعام].
واسم ربك شرط للتلقي عن الله {فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [سورة البقرة].
و{إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [سورة ق].
لهذا أمر سبحانه وتعالى بالربانية في مقام العلم والتعليم والمدارسة: {وَلَـٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [سورة آل عمران، بقراءتيها: تعْلَمون وتُعَلِّمون].
فالربانية هي سبيل تعلم وتعليم ومدارسة الكتاب؛ وقد شملت العمليات العلمية التعليمية كلها لجميع الفئات: فالتعلم للذات، والتعليم للغير، والمدارسة مع الغير.
وبهذا تكون رسالات القرآن هي رسالات الهدى المنهاجي التي تطبع متلقيها بخلق الربانية؛ والتدارس لكتاب الله هو سبيل هذه الربانية.
والربانية هي العلامة الكبرى على تحول المجتمع إلى مقام الخيرية الشاهدة على العالمين {كنتم خير أمة…} حسب المعادلة التالية:
القرآن الربانية = صلاح إصلاح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *