هذه كلمات من رأس القلم مختصرة، طرزتها بنقول نفيسة معتصرة، عن تلاد أئمة السلف ذوي العلم والمعرفة المعتبرة، دفاعا عن إمام من أئمة الأمة الكبار، وجبل من جبال العلم والمعرفة، وهو الإمام أبو المعالي عَبْدُ المَلِكِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ يُوْسُفَ الجُوَيْنِي رحمه الله رحمة واسعة.
وسبب هذه المقالة أنني قبل أيام قليلة خلت، استمعت لمحاضرة لبعض الفضلاء من أهل العلم، أزرى فيها بهذا الإمام الفذ وبالغ في الاستخفاف به، ولم يتكلم فيه بالقسط والعدل، وزاد الطين بلة والطنبور نغمة نسبته لهذا الطعن والاستخفاف إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وقد حز في نفسي -يشهد الله- كلام هذا الفاضل في حق الإمام أبي المعالي رحمه الله ونور ضريحه، وخفت على صغار الطلبة ممن يتلقى كلام العلماء بالتسليم والقبول، أن تسبق إلى قلوبهم وعقولهم هذه الظنون الردية، المفتقرة إلى البراهين والحجج العلمية.
فأحببت تجلية هذا الأمر، نصرة لأهل الحق بالحق، ودفاعا عن الإمام الجويني رحمه الله، وتذكيرا لنفسي ولإخواني ممن شرفنا الله بمعرفة منهج السلف الصالح بضرورة العدل والإنصاف، وسلوك منهج الوسطية والاعتدال في نقد الرجال امتثالا لقول الحق سبحانه: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8).
وقد شحذ همتي لزبر هذا المقال ونشره أمران اثنان:
الأول: أن أعراض المسلمين عموما مصونة محفوظة لا يتجاسر عليها، والذب عنها من حقوق المسلم على المسلم، يقول النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة) رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته) رواه أبو داود وحسنه الألباني.
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (من اغتيب عنده مؤمن فنصره جزاه الله بها خيراً في الدنيا والآخرة، ومن اغتيب عنده مؤمن فلم ينصره جزاه الله بها في الدنيا والآخرة شراً، وما التقم أحد لقمة شراً من اغتياب مؤمن إن قال فيه ما يعلم فقد اغتابه وان قال فيه بما لا يعلم فقد بهته) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
فإذا كان هذا واجبنا تجاه أعراض عموم المسلمين، فكيف بأعراض حراس الديانة وحملة الشريعة وورثة الأنبياء… لا شك أن حقهم أعظم وآكد.
الثاني: أن هفوات العلماء وأخطاءهم وسقطاتهم في الأصول والفروع، لا ينبغي أن تتخذ مطية للوقيعة في أعراضهم سبا وسخرية وتنقيصا، لأن العصمة قد دفنت مع الأنبياء، وما من عالم على وجه البسيطة، إلا وانتقدت عليه أمور ونوقش في مسائل، فالفاضل من عدت سقطاته، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
يقول سعيد بن المسيب رحمه الله: (ليس من عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلاَّ وفيه عيب، ولكن مَن كان فضلُه أكثرَ من نقصه ذهب نقصه لفضله، كما أنَّه من غلب عليه نقصانه ذهب فضله). جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/48).
كما لا ينبغي أن تجعل الخلافات العقدية والفقهية والمذهبية سببا للاستخفاف بمكانة أهل العلم ورميهم بالجهل وقلة المعرفة، والنقول عن أئمة السلف في هذا كثيرة غزيرة لا يُدركها الإحصاء، ولا يحصرها الاستقصاء، منها على سبيل المثال لا الحصر:
قول الإمام أحمد رحمه الله: (لَم يعبر الجسر من خراسان مثل إسحاق -يعني ابن راهويه-، وإن كان يخالفنا في أشياء؛ فإنَّ الناسَ لم يزل يخالف بعضُهم بعضاً). سير أعلام النبلاء 11/371.
وقول الإمام الذهبي رحمه الله: (ولو أنَّا كلَّما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قُمنا عليه وبدَّعناه وهجَرناه، لَمَا سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا مَن هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحقِّ، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة). السير 14/39ـ40.
أدير بعد هذه التوطئة رأس اليراع لأقول: إن الإمام الجويني رحمه الله كان عالما جليلا يملأ الأرض علما، تضرب إليه أكباد الإبل للنهل من معين علومه ومعارفه، أثنى عليه غير واحد ممن ترجم له من أفاضل العلماء أهل السنة والأثر.
قال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (18/468): (الإِمَامُ الكَبِيْرُ، شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ، إِمَامُ الحَرَمَيْنِ، أَبُو المَعَالِي عَبْدُ المَلِكِ ابْنُ الإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْد اللهِ بنِ يُوْسُفَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ يُوْسُفَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ حَيُّوَيْه الجُوَيْنِيُّ).
وقال عنه الإمام أبو سعْد السّمعانيّ: (كان إمام الأئمّة على الإطلاق، المجمع على إمامته شرقًا وغربًا، لم تَرَ العيون مثله). انظر تاريخ الإسلام (10/424).
أما منزلة الجويني عند شيخ الإسلام ابن تيمية -وهي حجر الزاوية في هذا التسويد- فلا بد أن نقف معها وقفات لتجلية الحقيقة، وبيان بطلان ما ذكره صاحب المحاضرة من كون ابن تيمية «يتكلم عن الجويني بسخرية وإطاحة» (كذا قال باللفظ).
وسأقتصر على غيض قليل ينوب عن فيض كثير من كلام شيخ الإسلام، يتجلى لكل متأمل فيه بتجرد وإنصاف أنه رحمه الله كان ممن يجل الإمام الجويني ويعترف بإمامته وسعة علمه وقوة ذكائه، خلافا لما زعمه الشيخ الفاضل في محاضرته.
فها هو شيخ الإسلام يصنف الإمام الجويني في خانة محققي مذهب الشافعية فيقول: (وَإِنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِالسَّكْرَانِ قَوْلٌ لَيْسَ لَهُ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ مُحَقِّقِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، كَأَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيَّ، وَأَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ، يَجْعَلُونَ الشَّرَائِعَ فِي النَّشْوَانِ، فَأَمَّا الَّذِي عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ فَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ بِلَا رَيْبٍ) الفتاوى الكبرى 3/304.
وفي موضع آخر في معرض الرد عليه ومناقشته يتكلم عنه بإنصاف وأدب جم، ويحليه بألقاب علمية وازنة لا يمكن أن يوصف بها إلا كبار العلماء.
يقول رحمه الله: (وَغَايَتُهُ أَنْ يُحْكَى عَنْ مِثْلِ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ، وَهُوَ أَجَلُّ مَنْ يُحْكَى عَنْهُ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَبُو الْمَعَالِي لَيْسَ لَهُ وَجْهٌ فِي الْمَذْهَبِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَوْ يَجِبُ تَقْلِيدُهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ هَذَا وَهُوَ الذَّكِيُّ اللَّوْذَعِيُّ، وَكِتَابُهُ فِي الْمَذْهَبِ هُوَ الَّذِي رَفَعَ قَدْرَهُ وَفَخَّمَ أَمْرَهُ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُهُ فِيمَا ارْتَفَعَ بِهِ قَدْرُهُ وَعَظُمَ بِهِ أَمْرُهُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ، فَكَيْفَ يُقَلَّدُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي كَثُرَ فِيهِ الِاضْطِرَابُ وَأَقَرَّ عِنْدَ مَوْتِهِ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ وَتَابَ، وَهَجَرَهُ عَلَى بَعْضِ مَسَائِلِهِ مِثْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَصْحَابِ.
وَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ مَنْ يُقَلِّدُ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ الْأُسْتَاذَ الْمُطَاعَ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُقَلِّدُ مَنْ هُوَ دُونَهُ بِلَا نِزَاعٍ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الْفُرُوعِ دُونَ الْأُصُولِ، إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ كَانَ عَالِمًا بِمَدَارِك الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَأَبُو الْمَعَالِي لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَامَّةِ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِجْمَاعُ فِي الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْقِيَاسُ أَوْ التَّقْلِيدُ فِي الْمَسَائِلِ الظَّنِّيَّةِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ غَالِبُ أَمْرِهِ الدَّوَرَانُ بَيْنَ الْإِجْمَاعِ السَّمْعِيِّ الْقَطْعِيِّ وَالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي يَعْتَمِدُ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ) الفتاوى الكبرى 6/347-348.
ويقول أيضا: (وَكَذَلِكَ أَقَرَّ بِذَلِكَ أَبُو الْمَعَالِي وَالرَّازِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حُذَّاقِ الْقَوْمِ فَإِنَّ كَلَامَ ابْنِ فُورَكٍ قَدْ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ اتِّحَادَ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ) الفتاوى الكبرى 6/582.
خلاصة هذه النقول أن شيخ الإسلام كان ممن يرد على الإمام أبي المعالي الجويني ردودا كثيرة، ولكنه كان يعترف له بالعلم والتفنن في العلوم، مع أدب جم وعظيم الاحترام، ولعل أبرز شيء انتقده عليه قلة اطلاعه على السنن والأحاديث النبوية.
ومن أقواله في هذا الصدد -إضافة إلى النقول السابقة- قوله رحمه الله: (فَلَوْ تَأَمَّلَ أَبُو الْمَعَالِي وَذَوِيهِ الْكِتَابَ الَّذِي أَنْكَرُوهُ لَوَجَدُوا فِيهِ مَا يَخْصِمُهُمْ، وَلَكِنْ أَبُو الْمَعَالِي مَعَ فَرْطِ ذَكَائِهِ وَحِرْصِهِ عَلَى الْعِلْمِ وَعُلُوِّ قَدْرِهِ فِي فَنِّهِ كَانَ قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ بِالْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يُطَالِعْ عِلَّاتِهَا بِحَالٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهِ) الفتاوى الكبرى 6/616.
قلت: تأمل رحمك الله إلى عدل وإنصاف شيخ الإسلام، ما أحوجنا إلى منهجه في النقد والرد على المخالف، فإنه لم ينف عن الإمام الجويني معرفته بالسنة والآثار، وإنما قال: «كان قليل المعرفة» أي أنه لم يكن على دراية ومعرفة واسعة بهذا الفن، أو بعبارة أهل العصر: لم يكن متخصصا في هذا الفن.
وتأمل كيف افتتح نقده بعبارات المدح والثناء وبيان منزلة الإمام العلمية: «وَلَكِنْ أَبُو الْمَعَالِي مَعَ فَرْطِ ذَكَائِهِ وَحِرْصِهِ عَلَى الْعِلْمِ وَعُلُوِّ قَدْرِهِ فِي فَنِّهِ»، وهو -كما ترى- أمر مقصود لئلا يفهم من كلامه أنه يحط من قدره وينتقص من علمه.
وقد أعجبتني كلمة ذهبية -حقها أن تكتب بماء العيون- لخاتمة الحفاظ وجبل الحديث ابن حجر العسقلاني رحمه الله في الذب عن الإمام الجويني رحمه الله.
فقد نقل رحمه الله -تعليقا على حديث معاذ في القياس- كلمة عن الإمام ابن طاهر رحمه الله يقول فيها: (وَأَقْبَحُ مَا رَأَيْت فِيهِ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالْعُمْدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى حَدِيثِ مُعَاذٍ… وَهَذِهِ زَلَّةٌ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ عَالِمًا بِالنَّقْلِ لَمَا ارْتَكَبَ هَذِهِ الْجَهَالَةَ).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعليقا على هذا الكلام: (قُلْت: أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَبِّرَ بِأَلْيَنَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، مَعَ أَنَّ كَلَامَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَشَدُّ مِمَّا نَقَلَهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْحَدِيثُ مُدَوَّنٌ فِي الصِّحَاحِ، مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّأْوِيلُ، كَذَا قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، فَلَوْ كَانَ الْإِسْنَادُ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثَابِتًا، لَكَانَ كَافِيًا فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ وَقَدْ اسْتَنَدَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ فِي صِحَّتِهِ، إلَى تَلَقِّي أَئِمَّةِ الْفِقْهِ وَالِاجْتِهَادِ لَهُ بِالْقَبُولِ). التلخيص الحبير 4/ 337.
وختاما أسأل الله العظيم أن يرزقنا الأدب والعدل في القول والعمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.