أصدرت مؤسسة “راند” مؤخراً تقريراً في نهاية شهر مارس من عام 2007م (ربيع الأول 1428هـ) بعنوان (بناء شبكات مسلمة معتدلة Building Moderate Muslim Networks)، وهو تقرير متمم لسلسلة التقارير التي بدأ هذا المركز الفكري والمؤثر في إصدارها؛ لتحديد الأطر الفكرية للمواجهة مع العالم الإسلامي في الفترة التي أعقبت أحداث شتنبر.
الجديد في تقرير هذا العام أنه يقدم توصيات محددة وعملية للحكومة الأمريكية: أن تعتمد على الخبرات السابقة أثناء الحرب الباردة في مواجهة المد الفكري الشيوعي، وأن تستفيد من تلك الخبرات في مواجهة التيار الإسلامي المعاصر.
كما يوصي التقرير أن تدعم الإدارة الأمريكية قيام شبكات وجماعات تمثل التيار العلماني والليبرالي والعصراني في العالم الإسلامي؛ لكي تتصدى تلك الشبكات والجماعات لأفكار وأطروحات التيارات الإسلامية التي يصنفها التقرير بالمجمل بأنها (تيارات متطرفة). كما يؤكد التقرير على الحاجة لأن يكون مفهوم الاعتدال ومواصفاته مفاهيم أمريكية غربية، وليست مفاهيم إسلامية، وأن يكون هناك اختبار للاعتدال بالمفهوم الأمريكي يتم من خلاله تحديد من تعمل معهم الإدارة الأمريكية وتدعمهم في مقابل من تحاربهم وتحاول تحجيم نجاحاتهم.
أعدَّ الدراسة مجموعة من الخبراء الأمريكيين العاملين بالمركز، ومن أبرزهم “أنجل راباسا”؛ وهو باحث أكاديمي، عَمِل سابقاً في عدد من المناصب الهامة في كل من وزارة الخارجية الأمريكية ووزارة الدفاع، وهو حاصل على الدكتوراه من “جامعة هارفارد الأمريكية”، ويجيد التحدث بأربع لغات غير اللغة الإنجليزية، وهي: الفرنسية، الإيطالية، اليونانية والإسبانية، وله عدد من الكتب والدراسات حول العالم الإسلامي.
يحاول التقرير ـالذي صدر في 217 صفحة، وقُسِّم إلى مقدمة وتسعة فصول، وملخص للتقريرـ أن ينقل طبيعة المواجهة الفكرية من مواجهة بين الإسلام والغرب؛ لكي تصبح مواجهة من نوع آخر بين العالم الغربي من ناحية والعالم المسلم من ناحية أخرى، على غرار الحرب الباردة التي كانت بين معسكرين شرقي وغربي.
ويؤكد التقرير أن الصراع هو صراع أفكار إضافة إلى الصـراع العسـكري أو الأمني، وأن حسم المعركة مع الإرهاب لن يتم فقط على الساحات الأمنية أو العسكرية، ولكن الأهم أن يهزم الفكر الإسلامي -الذي يصفه التقرير بالمتطرف- في ساحة الأفكار أيضاً.
ويرى التقرير أن هذا الصراع الفطري يحتاج إلى الاستفادة من التجارب السابقة، ومن أهمها تجربة الصراع الفكري مع التيار الشيوعي خلال فترة الحرب الباردة، ويوصي التقرير الولايات المتحدة أن تستفيد من تلك التجارب، وتبحث في أسباب نجاحها وما يمكن أن يتكرر ويستخدم مرة أخرى من وسائل وأدوات وخطط وبرامج في إدارة الصراع مع التيار الإسلامي.
يعقد التقرير مقارنة بين المعركة الفكرية مع التيار الشيوعي، وبين المواجهة الحالية مع العالم الإسلامي، ويفرد لذلك فصلاً كاملاً في الدراسة. وفي الجدول المرفق عرضاً لهذه المقارنة:
كما يرى التقرير أهمية استعادة تفسيرات الإسلام من أيدي التيار الإسلامي وتصحيحها! حتى تتماشى وتتناسب تلك التفسيرات مع واقع العالم اليوم وتتماشى مع القوانين والتشريعات الدولية في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان وقضايا المرأة.
ويركز التقرير كذلك على أهمية إيجاد تعريف واضح ومحدد للاعتدال الإسلامي، وأن يصاغ هذا التعريف من قِبَل الغرب، وأن يصبح هذا التعريف هو الأداة والوسيلة لتحديد المعتدلين في العالم المسلم من أدعياء الاعتدال الذي لا يتوافق مع التعريف الأمريكي والغربي له.
يؤكد التقرير أن هذا التعريف للاعتدال هو من أهم ما يمكن أن يساهم به التقرير في خدمة السياسة الأمريكية، وأن على أمريكا أن تدعم فقط الأفراد والمؤسسات التي تندرج تحت مفهوم الاعتدال بالتفسير الأمريكي له، والمقدم في هذا التقرير.
يوصي التقرير أن تهتم الولايات المتحدة الأمريكية بصناعة ودعم شبكة من التيار العلماني والليبرالي والعصراني ممن تنطبق عليهم شروط الاعتدال الإسلامي بالمفهوم الأمريكي، وأن تُستخدم هذه الشبكة في مواجهة التيار الإسلامي الذي يرى التقرير أنه لا يجب التعاون معه أو دعمه بأي شكل من الأشكال، رغم ادعاء بعض فئات هذا التيار أنها معتدلة، وأنها تدعو للتعايش والحوار وتنبذ العنف.
وينصح التقرير بعدم التعاون مع كل فئات التيار الإسلامي، وأن يرتكز بناء شبكة التيار المعتدل على التيارات العلمانية والليبرالية والعصرانية فقط. ويجعل التقرير من المفهوم الجديد المقترح للاعتدال من وجهة النظر الأمريكية أحد أهم نتائج التقرير؛ ولذلك فإننا سنركز على هذا المفهوم الخاص بالاعتدال الأمريكي، رغم أن التقرير يحوي العديد من القضايا الهامة الأخرى التي يجب دراستها وتحديد سبل التعامل معها.