بما أن تعليمنا منذ زمن الاستقلال وهو يتخبط كالأعشى في البيد، لم يستطع أن يؤسس نظاما تعليميا فعالا له جديته وجدواه، وله أثره المستقبلية على الأمة، وما ذلك إلا من أجل غياب سياسة حكيمة وسديدة، تنطلق من مقومات الأمة الحضارية وتستشرف المستقبل. غياب رؤية واضحة لتعليمنا جعلته يعيش منذ زمن على البرامج الاستعجالية، ولا يخفى أن البرامج المستعجلة عرضة للضياع والنقص والتخبط في التنزيل.
من هنا أود أن أكشف عن بعض الحوامض الرديئة التي أصابت تعليمنا الجامعي، والتي رأيناها أيام التحصيل، ولازالت بل استفحلت، منها:
أولا: غياب روح المسؤولية عند بعض الأساتذة: وقد سبق أن قلت فساد التعليم من فساد رجاله قبل ضعف برامجه. فالأستاذ الجامعي اليوم لم يعد ذلك العالم الذي يحس بثقل المسؤولية، وبدوره في تكوين الأجيال، وإنما طائفة منهم ضعيفة جدا، ومنهم من لا يكاد يبين، حتى إن المرء ليتساءل كيف درس هؤلاء؟ وكيف حصلوا على الشواهد؟ وكيف ولجوا باب التعليم الجامعي؟
لكن لا غرابة أن هؤلاء وجدوا طائفة اهتمت لأغراضها الشخصية، ونسيت مسؤوليتها، ودخلتها الأغراض والمصالح الدنيوية من كل باب، وكما قالوا: الطمع أذل أعناق الرجال، فلما حصل هذا استهلوا في منح الشواهد والمناصب لمن كان من المقربين نفعا، فكم من مباراة شكلية ونتائج قبلية، ودكاكين الماسترآت والدكتوراه مفتوحة في وجه المقربين والمصلحيين، ومناقشات معظمها زور وبهتان لإرضاء فلان وعلان أو لجلب المنافع والأموال.
ولازلت أتذكر وفدا من الطلبة جاء على عجل من المطار إلى الكلية يبحث عن الأستاذ الفلاني، وكان من المعروفين بالرشوة المعلبة في شكل هداية. وبعضهم ولى وجهة قبل الخليجيين، فصار إلى ما صار إليه.
فأصبحت عندنا مجموعات متخصصة في مناقشة الخليجيين، الذي معظمهم مشكوك ومطعون في كفاءتهم وشواهدهم، وإني لأتذكر أن إحدى السنوات أسند إلي تدريس السنة الأولى من الماستر، فأول حصة كانت لي مع الطلبة وجدت خليجية درست عندي في سنوات الإجازة ضعيفة جدا جدا، طبعا وغيرها، كانت تأتينا وتقول يا أستاذ أنا أم عيال وعندي بعض الإكراهات… وكان زوجها يعمل بالسفارة السعودية. فتألمت لوجودها وإقصاء بعض المغاربة من الطلبة النجباء. فلما سألت الأستاذ المشرف عن ذلك قال لي بكل سهولة ويسر الأجانب لا يشملهم نظام المحاصصة.
ولكن الحقيقة ستأتي فيما بعد، أن زوجها الدبلوماسي استضاف بعض الأساتذة في عشاء “مضخم ومتخم” كأنها رشوة من جهة ملء البطون، والله أعلم بما سيأتي بعد. هذه الحقيقة المرة تؤرقني منذ زمان أن بعض الأساتذة باعوا ضميرهم وأخلاقهم، وخانوا مسؤولياتهم.
ولما قرب الامتحان، وقد طبقت البرنامج الذي اتفقنا عليه، فإذا أصدم بإزاحة من امتحان الطلبة في مادتي التي أشترك فيها مع إحدى أستاذة أخرى، بالحجة التي قيلت لي: إن الطلبة متخوفون منك، فقلت لم وأنا سأمتحنهم فيما لقنتهم فقط؟ فلا أجد جوابا مقنعا.
فنحن أمام فساد عريض، فساد بعض رجال التعليم، فكما أتبرم من هذا الصنف الفاسد، فإنني أنوه وأقدر أساتذة وعلماء ومفكرين يبذلون الغالي والنفيس من أجل تقديم العلم النافع، ويناقشون بكل موضوعية، ويعدلون في كل قضية، ومنهم من ينفق من جيبه على الطلبة.
وبهذا يظهر أن المشكلة الحقيقية في التعليم في رجاله والساهرين على تنفيذ برامجه وخططه، وليس في البرامج مهما يكن فيها من ضعف، إذ إن فساد العنصر البشري يؤدي لا محالة إلى إفساد البرامج التعليمية على مستوى تنزيلها والصدق في تبليغها.
ثانيا: وهو تابع لما قبله، وهو “غش رجال التعليم، وهذا أشد وأخطر من غش الحكام، لأن هذا النوع من الغش يفسد العلم والتربية، وذلك لما للأستاذ من تأثير نفسي وأخلاقي على معظم تلاميذه وطلابه. وإن أفحش شهادة الزور شهادة رجال التعليم والتربية. فكم من رسائل جامعية نوقشت والله يعلم أن التقارير التي كتبت عنها، كانت شهادة زور وكذب، وتزويق وتنميق في الكلام. وكم من المباراة لولوج التعليم العالي كانت زورا وباطلا، لأن نتائجها كانت قبلية والمباراة شكلية، فيمنح المنصب لغير الأكفاء ويبعد عنه النجباء، حتى صدق فينا قول ابن زنباع في زمانه “يحط الجيادا ويسمي الحميرا”.
أما عن وحدات الماستر والدكتوراه، حيث ينبغي أن تكون هناك معايير دقيقة لاختيار الطلبة النجباء والأكفاء لإتمام دراستهم بالسلك الثالث، فحدث ولا حرج، فقمة الغش والمحسوبية، فأصبح بعض الأساتذة مثله مثل البقال في البيع والشراء، والذي يدفع أكثر سواء من الداخل أو الخارج، أو من تجمعه به مصالح شخصية أو ببعض أقاربه فهو المحضوض وغيره فمنبوذ ومرفوض، وهذا فساد وإفساد شديد وخطير في مجال العلم والتعليم والتربية، يوشك إن لم يتدارك، أن يذهب بمصداقية الشهادة المغربية”.
وقد ذكر التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات لسنة 2018 أن 80% من الطلبة المسجلين بمراكز الدكتوراه لم يناقشوا أطاريحهم الجامعية ما بين 2008 و2012 وأن عدد المسجلين 1781 وأن 388 هم الذين تمكنوا من مناقشة أطاريحهم بمعدل 21.7% من العدد الإجمالي وقال بأن التزام التكوين بـ200 س لم يكن خاضها للمعايير المتفق عليه. فعلقت عليه في حينه بما يلي:
أولا: لم يتطرق المجلس إلى جودة هذه الأطاريح التي نوقشت فمعيار الجودة والجدة والبحث العلمي الخادم للأمة فهذا مغيب.
ثانيا: لم يتطرق أيضا إلى كفاءة الأستاذ المشرف فمعظم الأطاريح إلا قليلا منها لا يحظى بتتبع الأستاذ المشرف وإنما يكتفي في أحسن الأحوال بإشارات فضفاضة وعامة. وهذا راجع إلى كون بعض المشرفين لا علاقة لهم بالبحث العلمي. والدليل على ذلك أن بعضهم قد تجاوز 20 و25 سنة بالتعليم العالي ولا عنده مؤلفات ولا بحوث ولا مشاركات علمية بحثية جادة ومحكمة إذن فاقد الشيء لا يعطيه. فالجامعات الدولية المحترمة لا تقبل أن ينتسب الأستاذ إليها من غير أن يكون باحثا جادا وذا مصداقية وإلا أوقفوه وطردوه من صفهم.
ثالثا: معظم الماسترات التي من المفروض أن تكون الباحثين قبل التسجيل بالدكتوراه أصبحت عبارة عن دكاكين للتجارة والانتهازية وتقريب المقربين من أصحاب الأموال والسلطة وكل من يشمون فيه رائحة المصلحة الشخصية إلخ فليست هناك معايير دقيقة لاختيار الطالب الباحث إلا نادرا وممن معدنهم نفيس وجاد.
رابعا: ظروف الطالب المزرية والصعبة من فقر وبؤس …تجعل معظمهم غير قادرين على مواكبة البحث أو القيام بالبحث بجدية فيستعجل بعضهم فيكور بحثه تكويرا. والمفروض هو أن يعتنى بهؤلاء الطلبة السلك الثالث من الماستر والدكتوراه، وتعطى لهم كافة منحة مشرفة وعناية خاصة للدراسة والبحث. فكيف ببلد ينفق الأموال على المهرجانات والحفلات بمختلف أنواعها وطول السنة، وينهج سياسة التقشف على العلم وأهله فالعناية بالطالب وتوفير راحته واحتياجاته هي الخطوة الأولى في تكوين أجيال من الباحثين المرموقين.
ثالثا: أن مما زاد في استفحال فساد التعليم أنه لا يخضع للمراقبة، فكل أستاذ يفعل ما يشاء، ويدبر أمره كما اتفق، وددت لو كانت هناك لجنة من العلماء كل في تخصصه تراقب التعليم الجامعي وأن تتخلص الجامعة ممن لا علاقة له بالبحث العلمي، لأنه عبء عليها وعلى الأمة، كما فعلت الأردن خلال هذه السنة، وكما تفعل الدول المتقدمة، حيث تنهي عقد الأستاذ الباحث إن هو لم يقدم بحوثا علمية أو لم تعد له صلة بالبحث، فلا يسمح له بالاستمرار في الجامعة، فالدولة المتقدمة صارمة في اختيار الأستاذ الكفء والطالب الجاد. فالتعليم أساس بناء الأمة وإهماله منذر شؤم بخرابها.
هذه بعض الحوامض الرديئة التي أصابت التعليم الجامعي، حتى فقد مكانته وجديته وجدواه، فنحن أمام مشكلة عويصة، تستوجب الوقوف والسؤال إلى أين نحن ماضين، وكيف يكون مستقبلنا إن لم نبني تعليمنا.
وختاما لا يحسبن بعض المصلحيين أنما نشهر بالتعليم الجامعي ونحط من قدره، حاشا وكلا، وإنما دفعتنا الغيرة على التعليم ببلادنا ومستقبلها أن نقول هذه الكليمات عسى أن تجد لها مكانة في قلوب الغيورين من أماجد الأساتذة والمصلحين. والله المستعان.