مفهوم حقوق الإنسان بين الإعلان العالمي والتشريع الرباني*

من الثابت تاريخاً وواقعاً أن فكرة حقوق الإنسان ظهرت متأخرة أصلاً، وأنها كانت نتيجة معطيات وإفرازات وممارسات سلبية شاعت في المجتمع الغربي، وحلاً لتلك المشكلات تولدت قضية حقوق الإنسان، وهذا المنطلق للفكرة وحده يعد كافياً في بيان مدى الخلل والقصور الذي لحق مفهوم حقوق الإنسان في القانون الدولي الذي تنادى له العالم الغربي، وبقراءة نص الإعلان العالم لحقوق الإنسان الصادر من هيئة الأمم المتحدة في 10 دجنبر عام 1948م، يمكن أن نستخلص الآتي فيما يتعلق بمفهوم حقوق الإنسان:1- أن معنى الحقوق في القانون الدولي هو عبارة عن مجموعة من القواعد والنصوص التي تهدف إلى الوصول إلى المستوى المشترك في توطيد احترام الإنسان وتحقيق الحرية والعدل والسلام في العالم.

2- أن هذا المعنى يتفق مع المعنى الاصطلاحي للحقوق بإطلاقية من جهة كونه مجموعة مواد ونصوص وضعت لتنظيم بعض علاقات الناس، ومن جهة كونه يشتمل على مطالب لأحد على غيره، لكنه قد يختلف من جهة أخرى مهمة وهي كون مواده ونصوصه عبارة عن توصيات أو أحكام أدبية غير واجبة ولا ملزمة، فالإعلان العالمي نفسه ليس إلا مجرد تصريح صادر عن الأمم المتحدة غير ملزم، وليس له ضمانات تحميه من الانتهاك والتعدي عليه( ).
ولذا فإن الدول الكبرى تمارس عليه حق النقض (الفيتو) متى شاءت، وخاصة إذا كان الأمر متعلقاً بحقوق المسلمين كما هو الحال في قضية فلسطين وغيرها( ).
3- أن هذا المفهوم ينطلق من شعارات الديمقراطية والثورة الفرنسية المشهورة: (الحرية،الإخاء،المساواة)، ويظهر هذا جلياً من خلال ديباجة الإعلان العالمي ومواده، منها على سبيل المثال: ( لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم).
إلى غير ذلك من المواد التي تقرر هذه المبادئ، والتي احتاجها العالم الغربي لنقل شعوبه من حضيض العنف والجهل والفقر التي كان يعيشها في ظل النظام الإقطاعي الرأسمالي، إلى أن يصبح الفرد إنسانا له اعتبار وحقوق.
ونظراً إلى أن الشعارات المذكورة: (الحرية، الإخاء، المساواة) قد أطلق لها العنان، من غير ضابط ولا زمام، فقد انقلبت بعضها -كالحرية- في تطبيقاتها العملية إلى ويلات تئن منها المجتمعات الغربية اليوم، وانقلبت حياة الغرب في ظل هذا الانفلات إلى علمانية في التدين، وبهيمية في الأخلاق، ونفعية في العلاقات الاجتماعية، ومادية في التعامل بين الناس، ومصلحية حزبية في الحكم والسياسة.
ولو أردنا أن نبسط الكلام حول حقيقة تلك الشعارات وآثارها السلبية وما تقتضيه من هدم للدين والخلق والعلاقات الاجتماعية وغيرها لطال المقال، ونكتفي لبيان زيف تلك الشعارات البراقة أن ننقل ما ورد في بروتوكولات حكماء صهيون، وبالضبط في البروتوكول الأول: (كنا أول من اخترع كلمات الحرية والمساواة والإخاء، التي أخذ العميان يرددونها في كل مكان دون تفكير أو وعي، وهي كلمات جوفاء لم تلحظ الشعوب الجاهلة مدى الاختلاف بل التناقض الذي يشيع في مدلولها. إن شعار الحرية والمساواة والإخاء الذي أطلقناه قد جلب لنا أعواناً من جميع أنحاء الدنيا) اهـ.
وكان من إفرازات تلك الشعارات البراقة في ظاهرها أن نشأت دعوات متعددة -حتى في بعض بلاد الإسلام- إلى “وحدة الأديان”، و”زمالة الأديان” و”التقارب بين الأديان” ونحوها، كما ظهرت الدعوة إلى إيجاد “دين عالمي جديد”، وإلى حرية الردة والشذوذ والارتكاس الأخلاقي بدعوى الحرية الفردية.
أما حقوق الإنسان في الإسلام فهي ليست حقوقًا سياسية ودستورية فحسب، وهي ليست نتاجًا فكريًا يمثّل مرحلًة من تطوّر العقل الإنساني، وليست حقوقًا طبيعية كما يعبر عنها في القانون الوضعي، ولكنها في التعاليم الإسلامية واجبات دينية يُكلَّف بها الفردُ والمجتمع، كلٌّ في نطاقه، وفي حدود المسئولية التي ينهض بها، وبذلك فإن الفرد في المجتمع المسلم يتشرَّب هذه الحقوقَ، ويتكيّف معها، بحيث تصبح جزءًا من مكوّناته النفسية والعقلية والوجدانية، ويحافظ عليها لأن في المحافظة عليها أداء لواجب شرعي، وليس من حقه أن يفرط فيها، لأن التفريط فيها تقصيرٌ في أداء هذا الواجب.
والفروق بين مفهوم حقوق الإنسان في الإسلام وفي الوثائق والقوانين الدولية، كثيرة متباينة نذكر منها:
1) أن الشريعة الإسلامية سبقت كافة المواثيق والإعلانات والاتفاقات والقوانين الدولية في تناول وتأصيل حقوق الإنسان منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، وإن ما جاء به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ونحوه من المواثيق، ما هو إلا ترديد لبعض ما تضمنته الشريعة الإسلامية( ).
2) أن حقوق الإنسان في الإسلام، مصدرها الوحي الرباني، المتمثل في كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، مصدرها خالق الإنسان: {ألاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}الملك، فهي بذلك مبرأة من كل عيب أو نقص أو جهل أو هوى، قال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} الأنعام، أما مصدر حقوق الإنسان في القوانين والمواثيق الدولية فهو الفكر البشري الذي لابد أن يتأثر بطبيعة البشر من الهوى والضعف والعجز والقصور( ) والجهل والخطأ، قال تعالى: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}النساء، وقال تعالى في وصف الإنسان: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} الأحزاب.
3) أن حقوق الإنسان في الإسلام، حقوق أصيلة ثابتة أبدية، لا تقبل حذفاً ولا تعديلاً ولا تغييراً ولا نسخاً ولا تعطيلاً، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} الروم، أما في القانون الدولي فهي تخضع لأهواء البشر وعقولهم، وتقبل التغيير والتبديل بما تمليه تلك الأهواء والعقول، التي تفسد ولا تصلح، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} المومنون.
4) أن “حقوق الإنسان” في الإسلام، ملزمة وواجبة شرعاً، لأنها جزء من دين المسلم، لا يمكنه ولا يحق له أن يتنازل عنها أو يفرط فيها، وإلا لحقه الإثم، وتعرض للجزاء والعقاب، وللسلطة العامة في الإسلام حق الإجبار على أداء هذه “الحقوق” باعتبارها فريضة من الله تعالى، بينما الحال في القوانين الدولية: أن تلك الحقوق مجرد توصيات وأحكام أدبية، يُنادَى بها ويُعلن عنها ويُحث عليها، وتعتبر حقاً شخصياً لا يمكن الإجبار عليه إذا تنازل عنه صاحبه( ).
5) أن حقوق الإنسان في الإسلام، شاملة لجميع أنواع الحقوق التي يحتاجها البشر في حياتهم، ولجميع أصناف الناس، قال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} يس، أما الإعلان العالمي فيظهر عليه النقص والخلل الكبير كما هي طبيعة البشر.
6) أن حقوق الإنسان في الإسلام، قد أحيطت بضمانات لحمايتها من الانتهاك، واعتمد المنهج الإسلامي لتحقيق هذه الحماية على أمرين أساسيين هما:
أ) إقامة الحدود الشرعية، التي من أهم مقاصدها: المحافظة على حقوق الأفراد، وحفظ الضرورات الخمس لهم: (الدين، النفس، المال، العرض، العقل).
ب) تحقيق العدالة المطلقة التي أوجبها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} النحل.
قال ابن عطية في تفسيرها: (والعدل هو فعل كل مفروض من عقائد وشرائع، وسير مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم، والإنصاف، وإعطاء الحق) (المحرر الوجيز 2/416)، وقال سيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم: “لا قُدِّست أمةٌ لا يأخذ الضعيفُ فيها حقَّه غيرَ متعْتَع” (صحيح سنن ابن ماجة 2/55).
أما في القوانين الدولية، وبمراجعة الإعلان العالمي يظهر جلياً عدم تحديد أية ضمانات تحمي هذه الحقوق من الانتهاك، وكل ما فيه التحذير من التحايل على نصوصه أو إساءة تأويلها دون تحديد جزاء للمخالفة( ).
7) وإضافة إلى ذلك فإن حقوق الإنسان في الإسلام، يقترن أداؤها بجزاء أخروي إضافة إلى الجزاء الدنيوي، وكذا يترتب على إهمالها والتقصير فيها عقاب دنيوي وأخروي، بل إن الأصل في أجزية الشريعة الإسلامية هو الجزاء الأخروي، ويترتب على هذا أن الفرد المسلم يخضع لأحكامها وواجباتها خضوعاً اختيارياً في السر والعلن، رغبة فيما عند الله وخوفاً من عقابه، حتى لو استطاع أن يفلت من عقاب الدنيا( )، وعلى سبيل المثال: فإن من الحقوق التي جاء التأكيد على مراعاتها في القرآن حق اليتامى، بالإحسان إليهم وحفظ أموالهم ونحو ذلك، فقال تعالى في شأنهم: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى..} الآية، واقترن به الوعيد في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*-“حقوق الإنسان”: مفهومه وتطبيقاته في القرآن الكريم إعداد د/ يحيى زمزمي -بتصرف-

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *