تشكل العقائد والقناعات أساس منطلقات الإنسان ومبررات تصرفاته؛ فبها يختار أولوياته؛ ويحدد توجهاته؛ ويرسم خططه، ومنه فإن الإنسان الذي يصدر عن عقيدة التوحيد ويدافع عنها ويسعى إلى أن يصرف كل أنواع العبادة لله وحده؛ ويحذر -كل الحذر- من أن تشوب هذه العقيدة لوثة شرك، اهتماماته وأهدافه تختلف لا محالة مع آخر غُيب عنده هذا الأصل؛ وحل محله أصل آخر ألغى الإله جل في علاه وجعل الفرد مركز الكون؛ وبنى كل تصوراته ونظرياته لما يراه هو إسعادا للإنسان وضمانا لعيشه وإرضاء لنزواته وإشباعا لشهواته.
فالعقيدة في الله تعالى؛ والنظرة للكون والحياة والإنسان منطلق رئيس لتحديد النقاش حول قضية الشرك والمواسم والأضرحة وما يمارس فيها من طقوس شركية ومخالفات شرعية وممارسات شاذة يندى لها الجبين بلغت حد اللواط باسم «بركات الولي وصاحب الضريح».
ومن تابع حلقة برنامج «بدون حرج» على قناة «ميدي 1» التي خصصت لموضوع الأضرحة والأولياء سيقف لا محالة على ما قدمت به في مطلع المقال؛ وسيتبين له أن من ينظر من زاوية الشرع ويحلل انطلاقا من هذه المرجعية يختلف طرحه وتحليله والحلول التي يقدمها اختلافا كبيرا عمن ينظر من زوايا أخرى اجتماعية وسوسيولوجية أنثروبولوجية فحسب.
فأصحاب المرجعية الأخيرة يرون في طقوس الأضرحة ملاذا روحيا، وموروثا شعبيا متوارثا يجب الحفاظ عليه، وفضاء يخفف على الدولة أعباء طبية وتأطيرية جد معقدة، ومنعشا اقتصاديا للعديد من المناطق والجهات إلى غير ذلك، في حين ينظر أصحاب المرجعية الأولى وهي المرجعية الدينية الشرعية -التي لم يخصَّص لها في البرنامج المذكور؛ مع كامل الأسف؛ سوى 46 ثانية فقط من مجموع ساعة وربع تقريبا من مدة البرنامج- بأن الأمر له متعلق بحق الخالق سبحانه ابتداء، الذي أمر بصرف كل أصناف العبادة له وحده، وحرم جل جلاله الجنة على كل من أشرك معه في عبادته شيئا؛ فقال في محكم التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا} النساء، وقال سبحانه: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار} المائدة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار» وقال أيضا: «من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار» روى الأول البخاري والثاني مسلم.
فمن يعتقد أن هذه الحياة مرحلة زمنية محددة يعقبها حساب وجزاء ووقوف بين يدي الله تعالى، فهو يسعى -قدر استطاعته- إلى العمل وفق مراد الله تعالى وبما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالته وأهمه التوحيد، ويعمل جاهدا على البعد عن الشرك وبؤره، ومن يعتقد غير ذلك؛ أو ضعف التدين عنده حتى بات رسوما قديمة؛ وموروثا ثقافيا واجتماعيا؛ فهو يتخبط في صنوف من التحليل المادي والبراغماتي الذي يلغي حق الإله ويحاول أن يبرر وفي بعض الأحيان أن يشرعن أيضا انحرافات زوار الأضرحة والمتوسلين بالأولياء والصلحاء.
إننا نناقش هذا الموضوع اليوم بين مسلمين أبا عن جد؛ وبين أشخاص لا يقبل الواحد منهم أن يزايد أحد على إسلامه؛ ونحن نوافقهم على ذلك؛ ونعترض على من يشكك في إسلام أخيه؛ فمن دخل في الإسلام بيقين لا يخرج منه إلا بيقين؛ لكن دعونا نناقش هذا الموضوع بعقل، ونحلله بهدوء وروية؛ وننأى خلال ذلك عن الرمي بالتهم الجاهزة والأحكام المجانية.
فالإسلام ليس شعارا أجوف يرفع في وجه المعارض ساعة الحجاج؛ بل دين خاتم له أركانه وأصوله ونواقضه التي يجب الحذر من الوقوع فيها؛ وأعظم تلك النواقض التي تذهب بدين المرء الشرك في العبادة، وأن يتخذ وسائط يدعوهم من دون الله ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم؛ فهذه نواقض نص عليها كل علماء الإسلام ومن شتى المذاهب، ولا يمكن البتة الادعاء أنها تشدد وهابي أو سلفي.. كما يسوق إعلاميا، لأن النصوص المستفيضة لا تسعفهم ولا تعينهم حتى على مجرد الادعاء لو كانوا يعقلون، إذ الأمر بكل اختصار له متعلق بعقيدة ثابتة بالكتاب والسنة، وراسخة بالمواقف التاريخية المشرقة لعلماء المغرب.
فلسنا ضد الدراسات الاجتماعية ولا ضد أي نوع من العلوم المفيدة للإنسان، لكن حين يتعلق الأمر بموضوع الشرك بالله تعالى، فإنه يتعين حينها الوضوح والصراحة واتخاذ المواقف والاستفادة من العلوم التجريبية للتحذير من هذا الخطر الذي يذهب بدنيا المرء وآخرته؛ لا أن يبرر بأي تحليل مادي أو مسوغ آخر.