شرح منظومة العلامة القاضي محمد أبي بكر القيسي الغرناطي التي سماها “نيل المنى في نظم الموافقات” للإمام الشاطبي -رحمه الله- الشيخ مولود السريري

 

وغير ما اضطر له ولا ضرر       في تركـه فيـه مجـال للنـظــر

ومقتـضـى الذرائـع المـأثـورة        يدخل في ذا القسم بالضرورة

“و” القسم الثالث من المسألة السابقة هو “غير ما” أي المباح الأصل الذي “اضطر له، ولا ضرر” يلحق “في تركه” إطلاقا فهذا -القسم- “فيه مجال” ومسرح “للنظر” والاجتهاد، وذلك لأن ما ترجح به جانب المباح فيما تقدم وهو الضرورة والحاجة قد ارتفع هنا، وكذلك ما ترجح به جانب العارض من قوة المفسدة -أيضا- كما تقدم غير مفروض هنا، فانحصر التعارض في هذا المقام بين العارض والإباحة، ولذلك كان هذا محل الاجتهاد والنظر والترجيح بما تقتضيه الأدلة والقواعد المعمول بها في هذا الموضع.

“ومقتضى” قاعدة “الذرائع المأثورة” عن أهل العلم يعني المأثور العمل بها واعتبارها عنهم “يدخل” العمل به “في ذا القسم” لكونه أي هذا القسم صالحا ليدخل فيه ويحكم به فيه؛ ويبنى عليه رجحان العارض على حكم الجناح لأن في ذلك سد ذريعة الوقوع في مفسدة واقعة أو متوقعة، مجلوبة بذلك العارض. كما أنه يبنى عليه رجحان الحكم المباح على حكم العارض -أيضا- بناء على أن في ذلك سدا لذريعة الوقوع في إثبات الحرج الذي رفعه الشارع في المباح، لأنه مظنته. إذ عوارض المباح كثيرة فإذا اعتبرت فربما ضاق المسلك وتعذر المخرج؛ فيصار إلى القسم الذي دخول هذه القاعدة فيه ثابت “بالضرورة” لجريان حكمها فيه، كما تقدم ذكره، إلا أنها لا تفيد فيها رجحان أي من المتعارضين لصلاحية بناء رجحان أي منهما عليها إلا أن المباح يرجح من جهة أخرى وهو أنه ثابت بأصل الإذن(1). هذا ما ظهر لي أنه المقصود هنا وأنه ينبغي تقرير الكلام عليه.

ومنه أيضا منشأ الخلاف    تعارض الغالب والأصل اقتفى

“ومنه” يعني وفيه أي هذا القسم “أيضا” يجري بناء حكم على “منشأ الخلاف” الواقع بين أهل العلم في قاعدة “تعارض الغالب” في واقع شيء ما “والأصل” فيه، إذا اختلفوا في أي منهما -الأصل الغالب- الراجح المقدم على الآخر في بناء الحكم الفقهي، ومن أمثلة ذلك سؤر ما عادته استعمال النجاسة إذا لم تر في أفواهها، ولم يعسر الاحتراز منها كالطير، والسباع، والدجاج والإوز المخلاة هل ينجس ماء كان أو طعاما، فيراقان حملا على الغالب أم لا تغليبا للأصل؟ ذهب بعضهم -كابن رشد- إلى تقديم الأصل، فيحمل على الطهارة. وذهب آخرون منهم إلى تقديم الغالب. والمشهور في مذهب مالك: تغليب الغالب في الماء، والأصل في الطعام لا ستجازة طرح الماء.

وهذا الأصل -القاعدة- هو الذي “اقتفى” أي اتبع العمل به في بناء الأحكام في هذا القسم، فمن غلب الأصل ورجحه ذهب إلى ترجيح الإباحة وإلغاء العارض. ومن غلب العارض ورجحه ذهب إلى إلغاء الأصل -الإباحة- والعمل بمقتضاه.

وعبارة الشاطبي: “ويدخل فيه -أيضا- قاعدة تعارض الأصل والغالب، والخلاف شهير”(2).

ولا يخفى ما بين كلامه وكلام الناظم من الاختلاف، إلا أننا نقرر كلام الناظم على ظاهره لأجل بيانه وإن كان بينه وبين كلام الشاطبي اختلاف يمكن أن يؤول بضرب من التوجيه إلى وفاق ما.

فتأمل حاصل القول أن هذا المقام -هذا القسم- قد وقع الخلاف فيما هو راجح فيه العمل به، هل هو الأصل أو العارض، وقد تجلب كل واحد من الطرفين المختلفين في هذا الشأن أدلته وحججه التي تدل على صحة رأيه ومذهبه في ذلك، وهي كثيرة(3)، “و” هي إنما كان حال هذا القسم على هذه الصورة لأنه “هو محل لاجتهاد ونظر” ثابتين “في” خطاب الوضع.

“خطاب الوضع” وهو أن يرد الخطاب الشرعي يكون هذا الشيء سببا، أو شرطا، أو مانعا، أو صحيحا، أو فاسدا. وهذا القسم الثاني من قسمي الأحكام الشرعية. قال الناظم:

أما خطاب الوضـع إذ يـقـرر        ففي فصول خمسة ينحصر

“أما خطاب الوضع إذ يقرر” بيان حاله والكلام على أنواعه وأحكامه “فـ” إنه “في فصول خمسة ينحصر” إذ يخص كل نوع منها بفصل.

“الفصل الأول” في الكلام على الأسباب وأحوالها وأحكامها، وفيه أي هذا الفصل تورد لبيان ما ذكر “مسائل” جمع مسألة وهي في الاصطلاح: القضية أو نسبتها التامة.

المسألة الأولى

في أن الأشياء الواقعة في الوجود المقتضية لأمور تشرع لأجلها أو توضع فتقتضيها على الجملة ضربان: أحدهما خارج عن مقدور المكلف. ثانيها: ما يصح دخوله تحت مقدوره.

وفي بيان ذلك وحكمه قال الناظم:

وجملـة الأفـعـال حيـث تـقــع        فيشرع الحكم لها أو يرفع

منهـن ما يخـرج عن مقــدور        مكلـف فهو إذا ضـروري

“وجملة” أي كل “الأفعال” ولو قال كالأشياء لكان أولى، لأنه يشمل الأفعال وما سواها مما سيذكره، من الأسباب والشروط والموانع، فليس كل ما سيذكر من ذلك أفعالا بل فيه ما ليس فعلا، كما سنعرفه بالوقوف عليه “حيث” في محل “تقع فيشرع الحكم لها” يعني لأجلها وفي -الحقيقة لأجل وقوعها ووجودها- “أو يرفع” لأجل وجودها أو وقوعها، هي على ضربين:

الضرب الأول “منهن” هو “ما يخرج” إيجاده وكسبه “عن مقدور” أي قدرة واستطاعة الشخص “المكلف فهو” لأجل هذا وهو كونه خارجا عن القدرة “إذا ضروري” وجوده لحصول التكليف بما ينشأ عن وجوده.

وذاك قـد يـكــون إمــا سـبـبـــا       أو شرطا أو مانعا الحكم أبى

مثـل الـزوال سبـبــا والـرشــد       شــرطـــا وكـالـمـحــيــــض

واعتبر المقدور في التصريف       من جهة الخطـاب بالتكليـف

“وذاك” الضرب المذكور أصنافه ثلاثة، لأنه “قد يكون إما سببا” وهو: الوصف الظاهر المنبط المعرف للحكم، “أو شرطا” وهو: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، “أو مانعا” وهو الوصف الوجودي الظاهر المنبط المعرف نقيض الحكم، فكان صادا “الحكم إذ قد أبى” ومنع جريانه -وقد تكون كلمة أبى هذه أتى بها لتتميم البيت لأنها في المعنى مستغنى عنها- والمانع عند الأصوليين إذا أطلق لا ينصرف إلا إلى مانع الحكم.

ثم ذكر أمثلة هذه الأصناف فقال “مثل الزوال” في كونه “سببا” في وجوب الصلاة وكمثل العنت في كونه سببا في إباحة نكاح الإماء، “والرشد شرطا” في دفع مال اليتيم إليه، وإرسال الرسل شرط في الثواب والعقاب و”كالمحيض” مانعا من الوطء والطلاق والطواف ووجوب الصلوات، وأداء الصيام، وكالجنون مانعا من القيام بالعبادات وإطلاق التصرفات وما أشبه ذلك. هذا هو بيان الضرب الأول وأمثلته “وهو ما لا يصح دخوله تحت مقدور المكلف”.

وأما الضرب الثاني فهو ما يدخل تحت مقدور المكلف وفيه يقول الناظم: “واعتبر” أي راعى الشيء “المقدور” على تحصيله بالإمكان “في” حال “التصريف” أي إعماله في بناء الأحكام التي تبنى عليه شرعا وقوله “التصريف” يعني تصريفه، فـ”ال” فيه نائبه عن الضمير من جهتين: الأولى “جهة الخطاب” الوارد “بالتكليف” فيكون إما مأمورا به أو منهيا عنه أو مأذونا فيه من جهة اقتضائه للمصالح والمفاسد جلبا أو دفعا:

مـثــل النـكـــاح أو الابـتــيــــاع     لمقصـد النـسـل والانـتـفـاع

وجهة الوضع على ما قد مضى      مثل النكاح سببا لما اقتضى

والطهـر شـرط صحـة الصــلاة     والديـن مانـعــا من الـزكـاة

وقد يكـون الشـيء يلفـي كـل ما     مر مع اختلاف ما له انتمى

وذاك كـالـنـكــــاح والإيــمـــان      والرق والطلاق والإحصان

ولا يـكــون مـا بـحـكــم عـلـقــا      في حكـم نفسه سـواه مطلقـا

“مثل النكاح” فإنه مأمور به “أو الابتياع” أي الشراء “لمقصد النسل” راجع للنكاح “والانتفاع” راجع للابتياع.

“و” الجهة الثانية “جهة الوضع” وهي “على” سنن “ما قد مضى” ذكره في الجهة الأولى ذلك أن هذا الضرب -ما يصح دخوله تحت المقدور- قد يكون سببا أو شرطا أو مانعا كالضرب الأول بلا فرق، وذلك “مثل النكاح” في كونه “سببا” أي معرفا “لما اقتضى” من أمور، وأحكام، كالتوارث بين الزوجين، وتحريم الأخت، والمصاهرة، وحلية الاستمتاع.

“و” كـ”الطهر” يعني الطهارة من الحدث والخبث فإنها “شرط” في “صحة الصلاة” وكالإحصان شرط في رجم الزاني، “و” كـ”الدين” في كونه “مانعا من” وجوب “الزكاة” في العين عند المالكية ومن وافقهم.

“وقد يكون الشيء” الواحد “يلفي” أي يوجد، حال كونه “كل ما مر” فيكون سببا وشرطا ومانعا، لكن “مع اختلاف ما” انتسب “له” من حكم و”انتمى”.

“وذاك” الذي يجري فيه ذلك “كالنكاح” فإنه سبب في الإرث، ومانع من نكاح الأخت، وشرط في وقوع الطلاق له في ذلك، و”الإيمان” فإنه سبب في الثواب، وشرط في وجود الطاعة، ومانع للقصاص منه للكافر فمواضع هذه المقتضيات مختلفة، فالحكم الأول الثواب، والثاني الصحة ووجوب الطاعة. والثالث: القصاص للمسلم من الكافر، “و” كـ”الرق” أي العبودية، فإنه شرط في صحة العتق، ومانع من الإرث، وسبب في صحة الملك، “و” كـ”الطلاق” فإنه سبب في العدة، ومانع من حلية الاستمتاع؛ وشرط في صحة زواجها من ثان بعد العدة، “و” كـ”الإحصان” فإنه شرط في رجم الزاني، ومانع من جواز جلده فقط، وسبب في حلية من هو محصن بها.

“ولا يكون” شيء “ما” شرطا مثلا “بحكم” أي في حكم ما و”علق” به ويكون “في” ذلك “الحكم نفسه سواه” بأن يكون سببا فيه أو مانعا “مطلقا” من غير استثناء. ومثل هذا الشرط في ذلك السبب والمانع بلا فرق. وعبارة الشاطبي رحمه الله تعالى: “فإذا وقع سببا لحكم شرعي فلا يكون شرطا فيه نفسه ولا مانعا، لما في ذلك من التدافع. وإنما سببا لحكم، وشرطا لآخر، ومانعا لآخر، ولا يصح اجتماعها على الحكم الواحد ولا اجتماع اثنين منها من جهة واحدة؛ كما لا يصح ذلك في أحكام خطاب التكليف.

يتبع..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- أنظر الأصل.

2- الموافقات 3/133

3- أنظر 1/32 وما بعدها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *