ما حقيقة ذم السلفيين للتصوف؟

“الكلام إذا سيق لأجل معنى: لا يكون حجة في غيره, لأن العادة قاضية أن المتكلم يكون مقبلا على ذلك المعنى, معرضا عن غيره, وما كان المتكلم معرضا عنه: لا يستدل بلفظه عليه فإنه كالمسكوت عنه”

إصلاح النفوس وتصفيتها من أدرانها, والسمو بها إلى مكارم الأخلاق, إحدى المهمات التي بعث من أجلها نبينا صلى الله عليه وسلم, وهذا ما يعرف شرعا باسم “التزكية”.
لكن الواقع في هذا المقام: أن شرا مستطيرا, وخطرا وبيلا, قد دخل “منهاج إصلاح النفس..فجُمِع في طياته بلاء لا حصر له ولا حد, وامتد الفساد من حقل الأخلاق والتعبد إلى وضع الحديث وافساد العقيدة” انظر الأصول العلمية 44.
فكان هذا الواقع حجابا لأفراد ينتسبون إلى السنة عن الحرص على تحصيل التزكية الأثرية, والسعي إلى العمل بها والدعوة إليها!!, بل صار عندهم كل من تكلم عن الذكر والخوف والمحبة ونحو ذلك من الأعمال القلبية والأخلاق الإيمانية على وفق السنة النبوية: أنه ينحو منحى أهل الأهواء من المتصوفة!! وهذا نتيجة الجهل, وفساد التصور.

التزكية والتصوف
أطلق البعض على التزكية والزهد اسم التصوف1 مع أن هذا الاخير قد أدخل فيه من الأمور ما يحبها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, كما ادرجت فيه من الأمور ما يكرهها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا إلى الحلول والاتحاد عياذا بالله من ذلك.
قال الشوكاني رحمه الله في معرض كلامه عما حدث من تفرق في المسلمين وعما عليه الطائفة المدعوة بالمتصوفة: “فقد كان أول هذا الأمر يطلق هذا الإسم (أي:التصوف2) على من بلغ في الزهد والعبادة إلى أعلى مبلغ, ومشى على هدي الشريعة المطهرة وأعرض عن الدنيا, وصد عن زينتها, ولم يغتر ببهجتها, ثم حدث أقوام جعلوا هذا الأمر طريقا إلى الدنيا ومدرجا إلى التلاعب بأحكام الشرع, ومسلكا إلى أبواب اللهو والخلاعة..” أدب الطلب 218.

أصحاب المنهج السلفي بالمغرب والتصوف
واضح من كلام الشوكاني رحمه الهل الآنف الذكر أن لفظة التصوف عند إطلاقها –خاصة عند المتأخرين-, قد كسي ثوب الإجمال مما نحتاج معه إلى الاستفصال.
قال الشاطبي رحمه الله: “ولفظ التصوف لا بد من شرحه أولا, حتى يقع الحكم على أمر مفهوم, لأنه أمر مجمل عند هؤلاء المتأخرين” الاعتصام1/265.
وعليه فأصحاب المنهج السلفي عند إطلاقهم ذم التصوف فيجب لزاما حمل كلامهم على مقتضى منهجهم وأصولهم3 فإن “الكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما أعظم الباطل, ويريد بها الآخر محض الحق.
والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعوا إليه ويناظر عنه” المدارج 3/221.
ومن ثم فيكون قصدهم بذلك الذم ما خالط هذا المجال من “بدع وخرافات وأوهام ومنكرات تسربت إلى مصنفات القوم, وتلبست بأقوالهم” 4 وأفعالهم.
فظهر أن ما ذكره الدكتور فريد الأنصاري من ذم السلفيين للتصوف بإطلاق على أن المقصود بذلك –كذلك- الأعمال القلبية الشرعية, والأخلاق الإيمانية السنية تعميم قائم على الإجحاف, ومجانبة الانصاف.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وأما الألفاظ المجملة فالكلام فيها بالنفي والإثبات دون الاستفصال يوقع في الجهل والضلال والفتن والخبال والقيل والقال” منهاج السنة.

التصوف و”العرف اللفظي”
لقد بين أهل العلم مراحل تطور التصوف من الزهد في الدنيا5 إلى أن بلغ الحلول والاتحاد كما وضحه شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوي 11/17-20(وقد نقل نص كلامه الدكتور فريد في الأخطاء الستة 159-161), وكذلك ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس 160-169, في آخرين.
فظهر أن صحة ذم التصوف والمتصوفة أو عدمه راجع إلى الزمن والعرف الذي أطلق فيه ذلك مراعاة لأصل “تلمس التطور الذي طرأ على المصطلح, أو المادة –ما أمكن- دلاليا كان أو استعماليا” مصطلحات النقد العربي 12 نقلا عن “المصطلح الأصولي عند الشاطبي” فريد الأنصاري 75! .
وهذا ما يعرف عند أهل العلم بالعرف اللفظي, وهو ما شاع بين الناس من استعمال ألفاظ ومصطلحات في معنى خاص, بحيث يصبح ذك المعنى هو المتبادر منها إلى الذهن عند الإطلاق بلا قرينة ولا علاقة عقلية.
قال ابن فرحون رحمه الله: “ينبغي أن تعرف العادة في اللفظ (العرف اللفظي أو القولي) أي: أن يغلب استعمال لفظ في معنا حتى يصير هو المتبادر إلى الذهن من ذلك اللفظ على الإطلاق مع أن اللغة لا تقتضيه وهو الحقيقة العرفية والجاز الراجح, وهو معنى قول الفقهاء العرف يقدم على اللغة” التبصرة 2/57, وانظر الفروق 11/71.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وأما إذا استعمل (أي: المرء) لفظه في معنى لم تجري عادته باستعماله فيه, وترك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه, وحمل كلامه على خلاف المعنى الذي عرف أنه يريده بذلك اللفظ بجعل كلامه متناقضا, وترك حمله على ما يناسب سائر كلامه: كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه, وتبديلا لمقاصده وكذبا عليه” الجواب الصحيح 4/44.
ومن المعلوم أن عموم حال التصوف السائد في عصرنا هذا “يترنح بين ابتداع ما لم يشرعه الله, وبين شرك ما أنزل الله به من سلطان, وهم في ذلك ما بين مستقل ومستكثر”.
وعليه فعند إطلاق ذم التصوف والمتصوفة في عصرنا الحاضر فإن الأمر ينصرف إلى هؤلاء, فالمرجو من الدكتور أن يتأمل هذا!.
وها هو شيخ الإسلام رحمه الله قد أطلق ذم المتصوفة حيث قال كما حكى عنه تلميذه ابن القيم: “سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يحكي عن بعض العارفين أنه قال: الناس يعبدون الله, والصوفية يعبدون أنفسهم” المدارج 2/268.
بل قد أطلق رحمه الله أن التصوف محدث حاله كحال الرأي والكلام, وأن ذلك قد ظهر بعدما انقضى عصر تابعي التابعين حيث قال: “حدث ثلاثة أشياء: الرأي, والكلام, والتصوف” الفتاوي 11/357-358.
فعلى ما يحمل يا ترى هذا الإطلاق؟.
لا شك انه محمول على ما حدث في ذلك من المخالفات والبدعيات والشركيات.
ولذلك نقول للأستاذ وفقه الله وإينا: “الكلام إذا سيق لأجل معنى: لا يكون حجة في غيره, لأن العادة قاضية أن المتكلم يكون مقبلا على ذلك المعنى, معرضا عن غيره, وما كان المتكلم معرضا عنه: لا يستدل بلفظه عليه فإنه كالمسكوت عنه” العقد المنظوم في الخصوص والعموم 475 للقرافي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قال شيخ الإسلام في معرض كلامه عن الزهد المشروع: “وكذلك أثناء المائة الثانية صاروا يعبرون عن ذلك بلفظ الصوفي” الفتاوي 11/29.
2- ولنا وقفة مع شرعية هذا المصطلح, وبيان عدم صحة اسقاط قاعدة “لا مشاحة في الاصطلاح” عليه.
3- إلا أفرادا منهم قد خلطوا في ذلك, أشرنا إلى حقيقتهم, والظاهر أن الدكتور فريد قد قام رده على هذه الفئة فوقع في التعميم!
4- “جمالية الدين” فريد الأنصاري 143.
5- على أن ابن الجوزي رحمه الله قرر أن “التصوف طريقة كان ابتداؤها الزهد الكلي, ثم ترخص المنتسبون إليها بالسماع والرقص…” تلبيس إبليس 160, وفي تلكم البداية من المخالفة الشرعية ما هو معلوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *