لماذا يؤرخ عمر الإسلام من ابتداء الهجرة وليس مع ابتداء الوحي والدعوة؟

لاشك أن سني الدعوة التي قضاها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة يدعو إلى سبيل ربه، ويتحمل الأذى، ويصبر على مقولة السفهاء، لا شك أنها محسوبة من عمر الإسلام، بل هي من أعظم سني الإسلام، لما كان عليه حال النبي صلى الله عليه وسلم من تمام التوكل على ربه وحسن الظن به والصبر على الأذى في سبيله.
وهذا أمر لا يشك فيه عاقل، ولا ينكره أحد على الإطلاق، سواء من المسلمين أو من غيرهم.
ولكن الذي حدا بالناس أن يعتمدوا تاريخ الهجرة عند التقويم أو عند ذكر سنة وقوع الحدث، وهو الذي يقع غالبا في كلامهم، أن هذا التاريخ هو ما اتفق عليه الصحابة أن يؤرخوا به زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك لأنه التاريخ الحقيقي لقيام الدولة الإسلامية، بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وبنزوله المدينة، واجتماع الناس حوله، ونصرتهم له، وبناء المسجد، وغير ذلك مما ترتب على الهجرة، فبدأت معالم الدولة الإسلامية تظهر وتتضح جغرافيا واجتماعيا وعسكريا وسياسيا، وأما قبل ذلك فلم يكن للمسلمين دولة، ولم يكن لهم نظام جامع.
وقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم في سنة ست عشرة -وقيل سنة سبع عشرة، أو ثماني عشرة- في الدولة العمرية على جعل ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة، وذلك أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رفع إليه صك -أي حجة- لرجل على آخر وفيه، أنه يحل عليه في شعبان.
فقال عمر: أي شعبان؟ أشعبان هذه السنة التي نحن فيها أو السنة الماضية، أو الآتية؟ ثم جمع الصحابة فاستشارهم في وضع تاريخ يتعرفون به حلول الديون وغير ذلك.
فقال قائل: أرخوا كتاريخ الفرس فكره ذلك، وقال قائل: أرخوا بتاريخ الروم، فكره ذلك.
وقال آخرون: أرخوا بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون بل بمبعثه، وقال آخرون بل بهجرته، وقال آخرون بل بوفاته عليه السلام.
فمال عمر رضي الله عنه إلى التاريخ بالهجرة لظهوره واشتهاره، واتفقوا معه على ذلك.
والمقصود أنهم جعلوا ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة، وجعلوا أولها من المحرم فيما اشتهر عنهم، وهذا هو قول جمهور الأئمة، لئلا يختلط النظام. انظر: “البداية والنهاية” (3 /251-253).
وقد روى البخاري في صحيحه (3934) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: (مَا عَدُّوا مِنْ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِنْ وَفَاتِهِ مَا عَدُّوا إِلَّا مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “وَقَدْ أَبْدَى بَعْضهمْ لِلْبُدَاءَةِ بِالْهِجْرَةِ مُنَاسَبَة فَقَالَ: كَانَتْ الْقَضَايَا الَّتِي اتّفقَتْ لَهُ وَيُمْكِن أَنْ يُؤَرَّخ بِهَا أَرْبَعَة: مَوْلِده وَمَبْعَثه وَهِجْرَته وَوَفَاته، فَرَجَحَ عِنْدهمْ جَعْلهَا مِنْ الْهِجْرَة، لِأَنَّ الْمَوْلِد وَالْمَبْعَث لَا يَخْلُو وَاحِد مِنْهُمَا مِنْ النِّزَاع فِي تَعْيِين السَّنَة، وَأَمَّا وَقْت الْوَفَاة فَأَعْرَضُوا عَنْهُ لِمَا تُوُقِّعَ بِذِكْرِهِ مِنْ الْأَسَف عَلَيْهِ، فَانْحَصَرَ فِي الْهِجْرَة، وَإِنَّمَا أَخَّرُوهُ مِنْ رَبِيع الْأَوَّل إِلَى الْمُحَرَّم لِأَنَّ اِبْتِدَاء الْعَزْم عَلَى الْهِجْرَة كَانَ فِي الْمُحَرَّم، إِذْ الْبَيْعَة وَقَعَتْ فِي أَثْنَاء ذِي الْحِجَّة وَهِيَ مُقَدِّمَة الْهِجْرَة، فَكَانَ أَوَّل هِلَال اِسْتَهَلَّ بَعْد الْبَيْعَة وَالْعَزْم عَلَى الْهِجْرَة هِلَال الْمُحَرَّم، فَنَاسَبَ أَنْ يُجْعَل مُبْتَدَأ، وَهَذَا أَقْوَى مَا وَفَقْت عَلَيْهِ مِنْ مُنَاسَبَة الِابْتِدَاء بِالْمُحَرَّمِ.
وَرَوَى الْحَاكِم عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب قَالَ: “جَمَعَ عُمَر النَّاس فَسَأَلَهُمْ عَنْ أَوَّل يَوْم يَكْتُب التَّارِيخ، فَقَالَ عَلِيّ: مِنْ يَوْم هَاجَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَك أَرْض الشِّرْك، فَفَعَلَهُ عُمَر…” انتهى ملخصا.
فالذي يعتبر أن عمر الإسلام إنما يبدأ بالهجرة، إنما يقصد التاريخ والتقويم وما اتفق الناس عليه من توحيد النظام لمعرفة الأيام والأحداث، وتصحيح المواقيت للناس في العقود والوفود ونحو ذلك: فهذا أمر اتفق الناس عليه من خلافة عمر رضي الله عنه إلى يومنا هذا، والذي يحدد بهذا التاريخ إنما يقصد عمر تكوين وإنشاء الدولة، وهذا إنما ابتدأ بالهجرة.
وأما بدء أمر الإسلام، ومعرفة الناس به: فلا يحتاج إلى تنبيه أنه قبل ذلك، بل الإسلام بمعناه العام: يشمل الدين الذي ارتضاه الله لعباده، وأرسل به أنبياءه ورسله، وهذا غير مراد في هذا المقام.
ولا نعتقد أن أحدا يتصور أن بداية الإسلام الحقيقية إنما هو من الهجرة، ويلغي سنين الدعوة التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه بمكة قبل الهجرة، هذا لا يقوله أحد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *