فقه الزلازل وما يستحب عندها

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “السنة في أسباب الخير والشر: أن يفعل العبد عند أسباب الخير الظاهرة والأعمال الصالحة ما يجلب الله به الخير، وعند أسباب الشر الظاهرة من العبادات ما يدفع الله به عنه الشر.. كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الخسوف بالصلاة والصدقة والدعاء والاستغفار والعتق”؛ ا.هـ.
ولما كانت الزلازل من الآيات التي يخوف الله بها عباده شأنها في ذلك شأن الكسوف والخسوف استحب عندها من الوعظ والصلاة والتقرب إلى الله تعالى بوجوه البر، فمن ذلك:

الصلاة عند الزلازل:
ختلف أهل العلم في الصلاة عند الزلزال؛ فقال مالك والشافعي: لا يصلى لشيء من الآيات سوى الكسوف؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يصل لغيره، وقد كان في عصره بعض هذه الآيات وكذلك خلفاؤه.
وقال القاضي: ولا يصلى للرجفة، والريح الشديدة، والظلمة، ونحوها.
وقال ابن قدامة: قال أصحابنا: يصلى للزلزلة كصلاة الكسوف نص عليه. وهو مذهب إسحاق وأبي ثور.
• وقال الآمدي: يصلى لذلك، ولرمي الكواكب والصواعق وكثرة المطر. وحكاه عن ابن أبي موسى.
وصلى ابن عباس للزلزلة بالبصرة. رواه سعيد. (سنن البيهقي 3/343).
• ووجه الصلاة للزلزلة فعل ابن عباس.
وغيرها لا يصلى له لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يصل لها ولا أحد من أصحابه والله أعلم ا.هـ المغني (3/332، 333).
والذي يترجح: أنه يصلى للزلزلة فرادى لا جماعة لأن الاجتماع لها يحتاج إلى الدليل. (إرشاد الساري 2/257).

التوبة والندم:
ويستحب عند الزلازل المسارعة إلى التوبة إلى الله تعالى من الذنوب والمعاصي والإقلاع عنها.
قال الإمام النووي: “قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط:
أحدها: أن يقلع عن المعصية.
والثاني: أن يندم على فعلها.
والثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبدًا.
فإن فُقد أحد الثلاثة لم تصح توبته.
وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة وأن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالا أو نحوه رده، وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه منه أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله منها.
قال تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ النور: 31.
ولا شك أن الله تعالى أراد من وراء هذه الآيات التي يخوف بها عباده أن يرجعوا إليه ويتضرعوا وينيبوا ويندموا ويقلعوا عن الذنوب.
كما قال بعض السلف وقد زلزلت الأرض: “إن ربكم يستعتبكم فاعتبوه”؛ أي: يطلبكم للرجوع عن الإساءة واسترضائه.
فالمفلح: من استجاب وتاب وندم ورجع وأناب.
والخاسر: من أعرض وارتاب فحق عليه الغضب والعذاب.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾ طه:81.

الذكر والدعاء والاستغفار:
قال القسطلاني: “ويستحب لكل أحد أن يتضرع بالدعاء عند الزلازل ونحوها كالصواعق والريح الشديدة والخسف”؛ ا. هـ (إرشاد الساري 2/257).
ومما يؤكد ذلك: ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الكسوف والخسوف:
ففي حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لما كسفت الشمس: “هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته ولكن يخوف الله بها عباده فإذا رأيتم شيئًا من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره” البخاري:1059 ومسلم:912.
وقوله -صلى الله عليه وسلم- “هذه الآيات” يدل على دخول الزلازل وغيرها من الآيات مع الكسوف والخسوف في الأمر بالفزع إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره.
قال الحافظ ابن حجر: واستدل بذلك على أن الأمر بالمبادرة إلى الذكر والدعاء والاستغفار وغير ذلك لا يختص بالكسوفين لأن الآيات أعم من ذلك.. وقال أيضًا: “وفيه الندب إلى الاستغفار عند الكسوف وغيره لأنه مما يدفع به البلاء” فتح الباري 2/635.
• وفي رواية: “فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا.
• وفي رواية: “فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله.
قال ابن مالك: “إنما أمر بالدعاء لأن النفوس عند مشاهدة ما هو خارق تكون معرضة عن الدنيا ومتوجهة إلى الحضرة العليا فيكون أقرب إلى الإجابة”.
ولما كانت الزلازل موطنًا من مواطن الكرب والشدة والهم والفزع استحب للمسلم أن يدعو في هذه المواطن بما ورد في ذلك من أدعية ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، من مثل ما ورد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “دعوة ذي النون إذ دعا ربه وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له. رواه الترمذي وغيره.

القنوت عند الزلازل؟
القنوت: اسم للدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام، قال الشوكاني: “القنوت مختص بالنوازل وأنه ينبغي عند نزول النازلة أن لا تخص به صلاة دون صلاة” ا.هـ (نيل الأوطار 2/346).
وقال ابن القيم: “وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- القنوت في النوازل خاصة وتركه عند عدمها” ا.هـ (زاد المعاد (1/141-142).
ومعنى النازلة كما يقول ابن علان: “نازلة عامة أو خاصة في معنى العامة لعود ضررها على المسلمين على الأوجه كوباء وطاعون وقحط وجراد وكذا مطر يضر بالعمران أو زرع وخوف عدو وكأسر عالم أو شجاع..”.
قلت: ويدخل في ذلك الزلازل وما تسببه من دمار قال الجوهري: “النازلة الشدة من شدائد الدهر تنزل بالناس” الفتوحات الربانية (2/288، 289).
والسنة في قنوت النوازل: أن يقتصر الداعي فيه على ما يناسب النازلة فقط. كذلك ما يفعله بعض الأئمة من التزام الإطالة في الدعاء إطالة يربو زمنها على الزمن الذي قضيت فيه الصلاة جميعها أو حتى على زمن القيام فيها أو التشهد فهو مخالف لسنته صلى الله عليه وسلم.

الصدقة وبذل المال:
ومما يستحب عند الزلزلة التصدق وبذل المال فعن جعفر بن برقان قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز: إن هذا الرجف شيء يعاقب الله به العباد، وقد كتبت إلى أهل الأمصار: أن يُخرجوا يوم كذا وكذا في شهر كذا وكذا في ساعة كذا وكذا فأخرجوا، ومن أراد منكم أن يتصدق فليفعل فإن الله قال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)، وقولوا كما قال أبوكم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾. وقولوا كما قال نوح عليه السلام: ﴿وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾. (مصنف ابن أبي شيبة 2/472).
قلت: ويدخل في ذلك ما تسببه الزلازل من موت بسبب الهدم وغيره.

تذكير الناس ووعظهم:
وقد دل على ذلك صنيع النبي -صلى الله عليه وسلم- لما وقعت حادثة كسوف الشمس وهي آية من آيات الله.
وأثر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما زلزلت الأرض على عهده خطب الناس فقال: “أحدثتم، لقد عجلتم، لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم”.
وهذا دليل واضح على مدى حرص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أمته وتوجيه النصح الوعظ والإرشاد إليهم عند الحوادث والآيات.
أشرف عبد المقصود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *