لقد كان إنتاج الأسلحة النووية واستعمالها كفيلا في حد ذاته بأن يجعل الغرب يتوارى خجلا أمام باقي شعوب العالم: فأمريكا هي التي صنعت الأسلحة النووية، وأمريكا هي الدولة الوحيدة التي استخدمت الأسلحة النووية، والدول الغربية هي التي تسعى إلى الحفاظ على احتكار الأسلحة النووية، وعلى هذا الأساس فليس لها الحق بتاتا في الاعتراض على حيازة الدول الأخرى لمثل هذه الأسلحة.
ولا بد من القول بأن الإسلام، رغم اشتماله على مفهوم الحرب المشروعة دفاعا عن النفس ونشرا للحق (كما هو الحال في باقي الديانات والأعراف)، لا مكان في ثقافته لإمكانية تحويل العنف إلى مثلٍ أعلى أو جعله وثنا معبودا كما فعلت الثقافة الغربية.
إن الغربيين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم ناس مسالمون، بيد أن الرقة والسموّ اللذين يطبعان الأناجيل بطابعهما، وكذلك الطبيعة المحبة للسلام التي يزعمون أن الديمقراطية تتسم بها، ليس لها في الحقيقة أي انعكاس في الثقافة الغربية الشعبية إلا على سبيل الندرة، بل على العكس نرى الاتجاه التام لتلك الثقافة، متمثلا في أفلام “هوليوود” وبرامج التلفاز الغربية وألعاب الفيديو والمسابقات الرياضية، ينحو منحى تمجيد العنف وتزيينه، ومن ثم فإن المعدلات النسبية لجرائم القتل (وبخاصة القتل العشوائي والقتل المسلسل) في العالم الغربي (وبالذات في الولايات المتحدة الأمريكية، بل حتى في أوربا كلها بصفة عامة) أعلى من مثيلاتها في العالم الإسلامي في البلاد التي لا يوجد فيها حروب طائفية، وذلك على الرغم من أن الغرب يتمتع بثروة أضخم كثيرا.
العنف يؤسس العالم الحر
ومن ناحية أخرى فإنه لكي يفهم المرء هذا الهلع الذي أصاب أمريكا مع ظهور حالة “الجمرة الخبيثة”، عليه أن يتأكد من أن ذاكرة هؤلاء الأمريكان الأنجلو سكسون البروتستانت قد رأت صورتها في المرآة تطاردها أشباح 112 مليون إنسان ينتمون إلى أكثر من أربعمائة أمة وشعب كانوا يملئون مجاهل العالم الجديد، لم يبق منهم في إحصاء مطلع القرن العشرين سوى ربع مليون، وتلوح لأعينهم مشاهد 93 حرباً جرثومية شاملة أتت على حياة الملايين من هذه الشعوب، هذه الإبادة الجماعية الأعظم والأطول في تاريخ الإنسانية.
لقد بدأ هؤلاء يرون مستقبلهم في صورة ضحاياهم الذين أبيدوا بجراثيم الجدري في العالم الجديد، أو بمبيد الأعشاب البرتقالي وغاز الخردل واليورانيوم المستنفد في الفيليبين وكوريا وفيتنام والعراق.
إن الولايات المتحدة لم تعترف أبداً بعدد “الهنود” الذين أبيدوا في الشمال الأميركي، والكتب المدرسية تؤكد أن تاريخ الإنسان في مجاهل الشمال الأميركي لم يبدأ إلا مع وصول الإنسان الأبيض في أواخر القرن السادس عشر، والأرقام الرسمية لم تتقلص وتُختزل بهذه الشراسة إلا لأن الكشف عن حقيقة عدد سكان أميركا عند وصول الإنسان الأبيض سيعرّي أسطورة “الأرض العذراء” التي اخترعها هؤلاء الكذابون.
إن هؤلاء الكذابين يزعمون أن حرب الإبادة الجماعية التي أفرغت العالم الجديد من سكانه وقضت على أكثر من أربعمائة شعب وأمة وقبيلة كانت تنتشر في الشمال الأميركي فوق مساحة أكبر من القارة الأوروبية بنصف مليون ميل مربع، وكل ما واكب هذه الإبادة من فظائع كانت مجرد “مأساة غير مقصودة”.
إن المؤسسين الأوائل للعالم الأمريكي الجديد اعتمدوا على الفكرة الاستيطانية (استبدال شعب بشعب) والعنصرية (استبدال ثقافة بثقافة) وتأكدوا من أن ذلك لا يمكن تحقيقه إلا بطقس العنف المميت هذا العنف الذي لازم فكرة أميركا وصنع تاريخها، صحيح أن هؤلاء الغزاة استخدموا أسلحة مختلفة لتحقيق فكرة أميركا، من أهمها: العمل بالسخرة، التجويع وتدمير البنى الاقتصادية اللازمة للحياة، الترحيل الجماعي القسري، الحرب الجرثومية، الحرب النفسية لتدمير معنويات الضحايا وتفريغها من معناها الإنساني، الاتفاقيات الملغومة، التذويب الثقافي، والاستعمار الداخلي أو ما يعرف حديثاً باسم الحكم الذاتي، أو السلطة الوطنية.. إلا أن طقس العنف لم يفارق واحدا من هذه الأسلحة الثمانية.
إن الإنجليز أكثر القوى الاستعمارية الأوروبية ممارسة وتعمداً للإبادة، كان هدفهم من استعمار العالم الجديد واستراليا ونيوزيلاندا هو إفراغ الأرض من أهلها وتملكها ووضع اليد على ثرواتها، خلال هذه المسيرة التي بدأت بأيرلندا ولم تنته بعد، وقد تحكمت عقدة “الاختيار الإلهي” و”التفوق العرقي” بسلوكهم وبنادقهم، وانتهت بهم إلى “بارانويا” تأليه الذات.
لقد ارتكب الإنجليز جريمة سلخ فروة الرأس في معظم حروبهم، وعلى نقيض ما تروج له “هوليوود” والرسميون والإعلاميون العنصريون وأكاديميو التاريخ المنتصر، فإنهم هم الذين أدخلوا عادة السلخ إلى العالم الجديد، وكانت عادة سلخ فروة الرأس متبعة أيام الحروب الإنجليزية الأيرلندية، ففي أواخر القرن السادس عشر لجأ القائد الإنجليزي “همفري جلبرت” إلى قطع الرؤوس وسلخ فروتها لإثارة الذعر في نفوس الإيرلنديين وقمع انتفاضتهم (1567- 1570م) في فظاعات أقلها زرع جانبي الطريق إلى مقر زعيم الانتفاضة بالرؤوس المقطوعة.
هذا نموذج من الثقافة الغربية النابعة من أخلاقيات النظام الدولي الجديد هذا هو العنف والكراهية الغربية المتجدرة في عروقهم والذي ما فتئ يطفح على السطح في الحرب المعلنة على الإسلام والمسلمين والمتمثلة جليا في العراق الجريح وأفغانستان المسلوبة.