ترددتُ في موضوع هذه الحلقة: هل أكتب فيه على حدة، أم أكتفي باندراجه في مواضيع الحلقات السابق، المتعلقة بمفهوم الشريعة وتطبيق الشريعة؟
وسبب التردد هو ما يحاط به الموضوع من تهويل وعويل.
فأما التهويل، فيقوم به المضخمون لأمر الحدود، الذين جعلوها رمزا لتطبيق الشريعة أو رمزا لتعطيلها. وهذا يدعوني لعدم الكتابة في الموضوع على حدته، والاكتفاء باندراجه فيما سبق من حلقات .
وأما العويل، فأصحابه يفرحون بأصحاب التهويل، ويتخذونهم سببا لعويلهم وحملات تخويفهم من الشريعة ودعاتها. فالشريعة معناها الحدود، والحدود معناها قطع الرؤوس والأيدي…
رجحتُ في النهاية أن أكتب حلقة خاصة بهذا الموضوع، وذلك لسببين: مهم، وأهم.
فأما السبب المهم، فهو أننا في مقام الوضوح ومواجهة الإشكالات. وهذا النهج لا يصلح فيه التضمين والتنبيه بالإشارة، بل لا بد فيه من صريح العبارة.
وأما السبب الأهم، فهو أننا أصبحنا نعيش تحت سطوة إرهاب فكري، لايسمح بالتفكير الحر في عدد من القضايا، فضلا من تبنيها والدفاع عنها، ومنها قضية “تطبيق الحدود”.
فمنذ سنوات -على سبيل المثال- كان أحد البرلمانيين الإسلاميين، قد أجاب عن سؤال صحفي، بكلمة تتضمن موقفا مبدئيا إيجابيا من تطبيق الحدود. ومنذ ذلك الحين -وإلى الآن-تتحرك جوقة التشنيع والتخويف والعويل، ضد تلك الكلمة العابرة، وضد صاحبها وحزبه وفصيلته!
لقد أصبح القمع والتنكيل والترهيب هو الرد الفوري، ضد كل من تسول له نفسه الدفاع عن تطبيق الشريعة، وتحديدا في نظامها الجنائي.
فأنا الآن -إذْ أكتب في هذ الموضوع- فإنما أكتب دفاعا عن حرية التفكير، وحرية الاعتقاد والتعبير. فالمسألة تتجاوز حدود “قضية الحدود”.
في عالم اليوم، لا بأس عليك ـ بل يصفق لك ـ إذا انتقدت وشتمت العرب والمسلمين، الأولين والآخرين، ولكن انتقاد اليهود ـ مجرد انتقاد فكري أو تاريخي أو سياسي ـ جريمة لا تغتفر، يعاقَب عليها قانونيا وسياسيا وإعلاميا.
وأن تنتقد -بالتي هي أحسن- مهرجانات التخدير والتبذير، فأنت كافر بالفن والحياة، مرتد إلى الوراء. فيجب رجمك فورا، تلافيا لانتشار وباء التهجم على “المقدسات الحداثية”.
وأن يكون لك رأي متحفظ -أو معترض- على السياسة السياحية الرديئة، فأنت ضد الانفتاح، وضد التنمية، وخطرٌ على اقتصاد البلاد، يا حسرة على العباد وعلى اقتصاد البلاد!
باختصار: هناك مقدسات جديدة، وطابوهات جديدة، لا ينبغي أن نساعد على استتبابها والتسليم بها.
حينما نكون ديموقراطيين قولا وعملا، فيجب أن نفسح لخصوم الديموقراطية ومنتقديها، وأن نستمع إليهم، ونحترم حقهم ووجهة نظرهم.
وحينما نكون من أنصار حقوق المرأة وتمكينها وترفيع شأنها، فللرأي الآخر مكانه وحقه في التفكير المخالف والتعبير المخالف.
وإذا وُجد فينا -وأرجو أن يوجد- من يدعو إلى المنع القانوني التام للتدخين، تماما مثل منع المخدرات، فأرجو عدم الإسراع بأخذه إلى مستشفى المجانين، أو طرده من البلاد. وعلى الأقل، نسمح له، ونستمع إليه بجدية وعلمية، كلما أراد أن يشرح ويوضح…
لأجل هذا السبب، والذي قبله، رجحْتُ أن أكتب في هذه الحلقة عن موضوع الحدود في الشريعة الإسلامية.
معنى الحدود؟
مصطلح “الحدود” مأخوذ من التعبير القرآني “حدود الله”، الوارد في عدة آيات.
وحدود الله في القرآن تعني مجمل الأحكام التي وضعها الله تعالى، لبيان ما يحل وما يحرم، وما يلزم وما لا يلزم … فهي الحدود التي حدها الله للسلوك البشري وللحقوق والعلاقات البشرية، ومنها أحكام الأسرة والعلاقات الزوجية. وحتى أحكام العبادات، وصفها القرآن الكريم بأنها حدود الله، كما في قوله عز وجل: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) [البقرة/187].
ولم يرد في القرآن لفظ الحدود، أو حدود الله، بمعنى العقوبات، أو بمعنى العقوبات المقدرة، كما هو اصطلاح الفقهاء. ويبدو أن هذا المعنى الفقهي قد أخذ من بعض الأحاديث النبوية، كقوله صلى الله عليه وسلم، حينما تَشَفعَ عنده بعض الصحابة في المرأة التي سرقت، فقال للشفيع: “أَتَشْفَعُ فِىحَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟!”، ثم قام عليه السلام، فخطب فقال: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا”[1].
فالحدود في اصطلاح الفقهاء، هي العقوبات المحددة في الكتاب والسنة، ولا تقبل الإسقاط، وهي على وجه الإجمال:[2].
حد السرقة، وهو قطع الكف اليمنى. وقد ذُكر في القرآن.
حد الحرابة، وهي الجريمة المنظمة، “المتعددة الاختصاصات”، أي الجرائم التي تقوم بها عصابات منظمة محترفة. وهي المذكورة في قوله تعالى)إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( [المائدة/33-34].
حد الزاني الأعزب، وهو مائة جلدة . وقد ذُكر في القرآن.
حد الزاني المتزوج، وهو الرجم، وقد ورد في السنة الصحيحة.
حد القذف، وهو ثمانون جلدة، وقد ذكر في القرآن الكريم.
حد الخمر، وهو أربعون جلدة، وردت به السنة الصحيحة.
وبما أن الحيز المتاح لهذه الحلقات لا يسمح بالتطويل والتفصيل، فإني أَذكر بإيجاز ثلاث مسائل، لا بد من ذكرها في الموضوع.
المسألة الأولى
هي أن هذه العقوبات قد أحيطت بشروط مشددة تجعل إثباتها وتطبيقها، لا يقعان إلا في أضيق الحدود، بل بعضها لا يمكن أن يطبق إلا نادرا، كحديْ الزنى. ولذلك فإن هذه العقوبات عند وجود أي شبهة في إثباتها، كما هو مُسَلم عند الفقهاء، بناء على القاعدة الحديثية: “ادرأوا الحدود بالشبهات”. ولذلك قال عمر رضي الله عنه: “لَأَنْ أُعَطل الحدود بالشبهات، أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات”[3].
المسألة الثانية
هي أن هذه العقوبات الشرعية المعروفة باسم الحدود، تتسم بعدد من الميزات، منها:
قلة عددها ؛ فهي معدودة على أصابع اليد الواحدة، ويبقى كل ما سواها من الجنايات متروكا للاجتهاد التشريعي والاجتهاد القضائي. بل حتى هذه الحدود نفسها، إذا أحاطت بثبوتها أي شبهة، أو إذا أعقبتها توبة، أو إذا تخلف شرط من شروطها، فإنها تتحول إلى عقوبة تعزيرية اجتهادية، تقدر بقدرها.
فاعليتها وتحقيقها لمقاصد العقوبات. وهذا مقياس أساسي في سَن أي عقوبة، فإن العقوبات التي لا تحقق مقاصدها، تتحول إلى عقوبات للمجتمع نفسه.
كون أثرها يرجع أساسا إلى هيبتها، ثم إلى الحالات القليلة أو النادرة لتنفيذها. فبمجرد اعتمادها والإعلان عن العمل بها، تتوقف نسبة كبيرة من الجرائم. وبتنفيذها مرة واحدة، تتوقف نسبة أخرى كبيرة أو أكبر.
سهولة تنفيذها وانعدام كلفتها، مقارنة مع عقوبة السجن السائدة اليوم، فهي لا تحتاج إلى “المؤسسات السجنية”، بكل نفقاتها واحتياجاتها المادية والبشرية، ولا تحتم علينا أن نضع ميزانيات ضخمة، وجيشا من الموظفين، في خدمة المجرمين.
نصف هذه الحدود، عقوبته هي الجلد . وهذه العقوبة لا تصيب إلا الجاني وحده، وتنفذ عليه في بضع دقائق، بينما العقوبات السجنية كلها، يتضرر منها السجين وأقاربه، وتنجم عنها عقوبات إضافية غير محكوم بها .
ـ فأقاربه أولاً، يحرمون منه ومن دخله وخدماته.
ـ ثم ثانيا، يتعين عليهم القيام بزيارته وإمداده بعدد من احتياجاته.
ـ ثم هو نفسه قد يفقد مهنته، فتمتد العقوبة عليه حتى بعد خروجه من السجن.
فمن يتحمل مسؤولية هذه العقوبات الإضافية عليه وعلى ذويه؟!
المسألة الثالثة
هي الاتهام الموجه لهذه العقوبات بكونها شديدة وقاسية، ويصفها بعضهم بالوحشية والهمجية.
وبكل بساطة وهدوء، أقول: هذه أوصاف نسبية، ومزاجية.
ـ فأما نسبيتها، فلأنها إن كانت شديدة بمقدار ما، فهي رأفة ورحمة بأضعاف مضاعفة. ثم علينا أن نختار بين إيقاع الشدة على المجرمين المعتدين، أو ترك الشدة تجري على المجتمع وقيمه وأبنائه الأبرياء؟ وعلينا أن نحسب أي الشدتين أشد وأقسى، وأكبر وأخطر: الشدة على أفراد محدودين معتدين، أم الشدة على المجتمع والضحايا المظلومين؟
-وأما مزاجيتها، فلأنها نظرة قادمة من المزاج الغربي لا أقل ولا أكثر. وليس هناك ـ جزما وقطعا- أي موجب علمي موضوعي لهذا الحكم ولهذا الوصف.
والمزاج الغربي يجعل العقوبة البدنية الفورية، قسوة ووحشية، ولا يرى القسوة والوحشية في السجن مدى الحياة، أو لعدد من السنين، ولا يرى الوحشية فيما يصيب الناس، مجتمعا وأفرادا، وقيما وأخلاقا..
ومن أعجب العجب أن يأتينا رفض “القسوة والوحشية” من الغرب بالذات، الغرب الذي يحتكر -منذ عدة قرون- كل صنوف القسوة والوحشية وأسلحة الدمار الشامل، ثم يأتي هو وأتباعه، لتحدثوا عن القسوة والوحشية، في أحكام تصدر بكامل الضمانات والاحتياطات التشريعية والقضائية، وتحقق أقصى درجات الرفق والرحمة والأمن للمجتمع.
ــــــــــــــــــــــ
[1] الحديث متفق عليه.
[2] لم أذكر هنا (حد الردة)، لأني سبق أن تناولته وبينت رأيي فيه، في حلقة سابقة. وله علاقة بحد الحرابة الآتي ذكره هنا، على ما بينته في الحلقة المخصصة للردة..
[3] مصنف ابن أبي شيبة 6/514.