كلمة الشيخ عبد الحميد أبو النعيم في المقبرة (1)

قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ليس منا من لطم الخدود، ولا من شق الجيوب، ولا من دعا بدعوى الجاهلية”(2)، وحرم زيارة القبور، ثم رخص فيها للمصلحة، لكن عندما نذكر لمصلحة شرعية، ما ننتفع به نحن، لا ما يمجد به الميت، عندما نذكر محاسن ومواقف لننتفع بها، لا لنمجد الميت، تمجيد الميت من النياحة، جاء الإسلام ليقضي على كل مظاهر الوثنية، والقبورية والخرافة والأساطير، وأن تتعلق القلوب بالله وحده، وأن يعبد الله وحده، وأن يمجد وحده، وأن لا يعبد معه غيره، وأن لا يقصد غيره بما لا يليق إلا به جل وعلا، فكان أهل الجاهلية يعظمون الأموات، فجاء الإسلام بالتوحيد، بالقضاء على كل هذه المظاهر، فالتأبين الذي هو تعظيم الميت لذاته، ومدحه لذاته، ورفع شأنه لذاته، هذا من الجاهلية، أما الإسلام إذا كان لمصلحة شرعية -فنقول مثلا في هذا العلامة الفقيه الشيخ الإمام-: له صفات -كما ذكر شيخنا وأستاذنا القاضي برهون في المسجد-، ذكر هذا شيخنا حفظه الله وهو أعرف به منا، -قال-: صفات نادرة، كان رجل سنة -(احنا شنو نتبعوا)- كان صاحب دليل، كان لا يقدم على قول الله، ولا على قول رسوله -صلى الله عليه وسلم- أقوال الرجال، رغم فقهه العميق، ودرايته بالمذاهب، ودراسته للفروع، إلا أن الرجل كان صاحب دليل، هذه من الصفات العظيمة التي عرف بها الفقيه العلامة.
ونستفيد: أن نتبع الدليل، وأن ندور مع الدليل حيث دار، وأن لا نتعلاّ بأقوال الرجال، سيما إذا خالفت الحق الذي بعث الله به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: كان بعيد عن الأضواء والعلاقات والمناصب، كان بعيدا، كان رجلا متواضعا -(كنذكر هذا لنستفيد)- لنستفيد، ماذا نستفيد في هذا المشهد؟ ما الذي يمكن أن نستفيده؟ حتى لا نقع في المحذور، كان بعيدا عن الأضواء، ولو شاء لأضاءت له الدنيا كل الدنيا، كان متواضعا بعيدا عن العلاقات، بعيدا عن المظاهر، عن الصحافة.. عن الفضائيات مع علمه الغزير إذا قيس بمن وصل إلى هذه الأماكن -(شي من شي، واش جاب حمّو لعلي)- كان بعيدا عن الفتن، ما ظهر منها وما بطن، هذه العقود؛ منذ أن لحق العديد من العلماء الربانيين بالله عز وجل ماجَت الدنيا وهاجت بفتن واضطرابات ومواقف واختلافات.
ومن مميزات شيخنا العلامة الفقيه أنه كان بعيدا عن الفتن، وكان ينصح بالتقارب والتسامح والتثبت والتعقل ولم يرفع راية فتنة يلتف حولها أهل البدع.
قلنا: كان صاحب دليل، بعيد عن الأضواء، بعيد عن الفتن، ترك بصمته العظيمة في هذه المدينة -كان حابس بزاف ديال الفتن- جيل (ديال) الشباب عقله هو وإخوانه العلماء، جيل من الشباب.. عقلوه بالدليل وبالحكمة وبالمنهج، جيل كاد أن يضيع، لكن لقي الجدار، وأسفاه (بقينا) بلا جدار، (بقينا) بلا جدار، فترك بصمته العلمية والفقهية، والتوجيهية في هذا الجيل، كان مربيا، كان حكيما، كان وقورا، ونفس الصفات عند عدد من المشايخ، وهم حاضرون، ونتأسف أننا تقدمنا بين أيديهم، لكن نعلم أنهم قابلون، راضون، جزاهم الله خيرا، انتفعنا منهم منذ زمن طويل، من أيام الدكتور تقي الدين الهلالي شيخ الجماعة، ورائد الأمة، الذي غرس معاني السلفية بهذا البلد، رحمة الله عليه، وكان (معاه) الشيخ الزبير، (هادو هوما) جبال السنة (بهادي) المدينة، ثم تبعهم الجيل (اللي) خدم السنة، وفي مقدمتهم العلامة الفقيه، (وكاين) الخير الآن، مجموعة (ديال) الطلبة، وباحثين، ودكاترة، سينفع الله بهم مع الزمن، نسأل الله أن يثبتنا جميعا على الحق المبين.
حضور الجنازة يقصد منه في الإسلام مصلحة للمشيِّع –(اللي هو أنت، جاي تابع الجنازة)- مصلحة أن تَعتَبِر، وأن تستفيد، وأن تذكر الموت، وأن يقف هذا الطغيان في النفس، {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} (الفجر:19-20)، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات:8)، هذا الطغيان في النفس، (باش كتجي تذكرة)، تذكرة أيها الإنسان، مهما عشت في الدنيا فمآلك إلى الموت، {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (ق:19)، (ياما تهربتي)، فيستفيد المسلم، والفائدة للمشيَّع، (اللي كانجيو وراه)، أن ندعو له، (إلى صلاو عليه ثلاثة ديال الصفوف كيغفر ليه الله)، سبحان الجواد، سبحان الكريم، (وملّي كيجيو) المؤمنين، كأنهم (كيقولوا): أيها الملك، أيها الودود، هذا أخ لنا، هذا حبيب لنا، جئنا نشفع فيه، فيقول: عودوا قد غفرت له، وهو الجواد الكريم، يستفيد المشيِّع، ويستفيد المشيَّع، لأنه لابد (نكونوا نعرفوا) المقصد، إلى متى هذا الضياع، إلى متى هذه الفتن، إلى متى حب النفوس وطغيان الهوى في القلوب، (راه ملي تيمشي) عالم، لما (مشاو) الناس وراء جنازة أحمد بن حنبل قالوا: ثلمة في الإسلام، (ثقبة كبيرة)، وقد ذكر الأستاذ: أن السلف كانوا يقولون: بيننا وبينكم يوم الجنائز، كان يرددها كثيرا الإمام أحمد، ظل في السجن ثمان وعشرين شهرا، في سجن المعتصم، بوصية من المأمون، وظل زمن المعتصم والواثق وأياما من أيام المتوكل، محبوسا في بيته، لا يراه أحد، ولا يرى أحدا، ويقول: بيننا وبينكم يوم الجنائز، لم تكن في الإسلام جنازة كجنازة أبي عبد الله، أحمد بن حنبل، (خلي) الصحابة (هادوك) الواحد منهم بالملايين، واحد منهم بالملايين، (هادوك ما كيتقاسش معاهم)، جيل آخر.
أسلم النصارى، وأسلم اليهود، يوم موت أحمد بن حنبل، لأنه نصر عقيدة السلف، وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، واجتمع حوله صناديد الزندقة والاعتزال، ويرد عليهم بالحجة وبالبيان، ويردد: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (الرحمن1-2)، الإمام أحمد بن حنبل: بيننا وبينكم يوم الجنائز، وقد حرزوا الحضور فوجدوا الآلاف المؤلفة، ومات في زمنه هؤلاء الدهاقنة، فلم يتبع جنائزهم إلا أفرادا معدودين، …[حوار بين الشيخ وأحد المشييعين]…
إخواني:
اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد، اللهم اغفر لشيخنا، اللهم اغفر له وارحمه، اللهم عافه واعف عنه، اللهم وسع مدخله، اللهم أكرم نزله، اللهم اغسله بالماء والثلج والبرد، اللهم أعلي درجته في الجنة، اللهم ارحم علمائنا، ومشايخنا، وأهل الفضل فينا، اللهم إنهم بلغوا وأدوا رسالة التوحيد، ونشروا في الناس السنة، وفي مقدمتهم شيخ الجماعة، الدكتور الهلالي رحمة الله عليه، والشيخ الزبير رحمة الله عليه، وغيرهم) من المشايخ، اللهم اغفر لهم وارحمهم، اللهم عافهم واعف عنهم، اللهم أكرم نزلهم، اللهم أعلي درجاتهم في الجنة، اللهم اجعلنا على منهج الحق سائرين، إخلاصا لوجهك، واهتداء بهدي نبيك، اللهم وفقنا لخيري الدنيا والآخرة، اللهم ما بقي من أعمارنا فاجعله على الحق المبين، الذي بعث به نبيك الكريم، اللهم ارحم آبائنا، وأمهاتنا، وأهل الفضل فينا، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وآله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  سجلها ثم فرغها الأخ الفاضل أبو عبد الله الإبراهيمي

([2]) البخاري ومسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *