هل كان محمد صلى الله عليه وسلم مجرد زعيم سياسي ومصلح اجتماعي أم نبيا مرسلا؟

قدّم بعض المستشرقين جملة من النظريات المنحرفة لتفسير النهضة التي قامت بين العرب وظهور الدولة الإسلامية، وحاولوا جاهدين أن يلغوا الصبغة الدينية لهذه الحركة التاريخية، وقد أفضى بهم ذلك إلى جعل الإسلام مجرّد ثورة للفقراء ضد الأغنياء، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أكثر من مصلح اجتماعي أراد أن يعزّز القيم الفاضلة في المجتمع الذي نشأ فيه، والذي كان يموج بمظاهر التخلف والفساد الأخلاقي والاجتماعي، فلم يجد أفضل من الدعوة إلى دين جديد، وأن يتقمّص -بزعمهم- دور النبي المبعوث من رب العباد.
وقامت نظرية أخرى مغايرة، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رجلاً يطمح إلى الملك والسيطرة على مقاليد الأمور، فوضع لنفسه خطة تعتمد على تجميع الناس من حوله والتغرير بهم من منطلق هذا الدين الجديد، وساعدته في ذلك الظروف الاجتماعية التي وُجد فيها، حيث كان الناس في أمس الحاجة إلى نظام يلمّ شتات العرب، ويجمعهم على كلمة واحدة، بعد أن أنهكتهم الحروب، وذاقوا مرارة الفقر والحرمان، وهكذا التفّ العرب حوله وانضمّوا تحت لوائه، وقبلوا دعوته التي أتى بها.
ومن المعلوم أن الدعوة التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم تشمل ما ذكروه من جوانب السياسة والإصلاح.. لكن المشكلة تكمن في الاقتصار على هذه الجوانب ونزع الطابع النبويّ منها، وإلباسها ثوباً ماديّا مجرداً.
علما أن اتصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحزم والثبات، وعدم تقديم أية تنازلات لينفي قطعا مثل هذا الادعاءات، إذ إن من صفات السياسيين أن يدوروا في فلك مصالحهم الشخصية، وما يقتضيه ذلك من الاتصاف بالمرونة في التنازل عن بعض الثوابت أو شيء من المبادئ.
لكن الشأن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على النقيض من ذلك، ولذلك نجد موقفه واضحاً من أصحابه حين سألوه أن يجعل لهم كما هو حال الكفار شجرة يتبركون بها ويعلقون عليها أسلحتهم، فقد روى الإمام أحمد وابن حبان وغيرهما عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه، أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، يقول الصحابي الجليل: “وكان للكفار سدرة يعكفون عندها، ويعلقون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، قال: فمررنا بسدرة خضراء عظيمة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة }”.
ويتضح من هذا الموقف وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يرضى أبدا بالحلول الوسطية، أو الالتقاء في منتصف الطريق، وذلك نابع من طبيعة الهدف الذي بُعث لأجله، إنه رسول من الله تعالى إلى الناس جميعاً، ومهمته هي تبليغ الإسلام إلى الناس، فليس في يده أن يقبل مناهج مقترحة أو أفكاراً بديلة عن الشرع الإلهي، وذلك أمر في غاية الوضوح.
ولو كان الملك غايته صلى الله عليه وسلم لكان في عرض قريش له أن يجعلوه ملكا طريقاً مختصراً لهذه الغاية، لكنه أبى ذلك، مما ينفي صحة هذا الادعاء.
وقد طالعتنا كتب السير بحادثة فريدة تكشف بطلان ما زعمه المستشرقون، وذلك حينما انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) متفق عليه.
يقول الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله معلقاً على هذه الحادثة: “لو كان مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المناسبة الحزينة أي داعٍ من الدعاة، أو زعيم من الزعماء، أو قائد دعوة أو حركة أو جماعة، لسكت على هذا الكلام -إذا لم يوفّق إلى نفيه- ظناً منه أن ذلك الكلام إنما هو في صالح دعوته وحركته، وظنّ أنه لم يسترع الانتباه إلى هذه الناحية، بل إن الناس بأنفسهم فكّروا في ذلك، وقالوا: إن الشمس انكسفت لوفاة ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً فهو ليس بمكلف بنفي هذا التفكير.
وذلك هو الفرق بعينه بين النبي وغيره، فإن الأحداث التي يستغلها أصحاب التفكير السياسي -وإن كانت حوادث طبيعية- يرى الأنبياء الكرام عليهم السلام أن استغلالهَا على حساب الدين حراماً، وأمراً يرادف الكفر، ولا أدري أن أحداً سوى محمد صلى الله عليه وسلم قد صدق في هذا الامتحان من غير مؤسسي الجماعات وزعماء السياسة” اهـ كلامه بتصرّف.
وإذا كان الأمر كذلك، فمن السذاجة أن يوصف الدور الذي قام به خاتم الأنبياء والمرسلين بأنه مجرد عمليات إصلاحية في المجتمع العربي، أو محاولات لتصدّر الزعامة والسيطرة على مقاليد الحكم في جزيرة العرب، فلا مناص من الاعتراف بالحق الواضح، وهو ما عبّر عنه المستشرق “تريتون” بقوله: “إذا صحّ في العقول أن التفسير المادّي يمكن أن يكون صالحاً في تعليل بعض الظواهر التاريخية الكبرى، وبيان أسباب قيام الدول وسقوطها، فإن هذا التفسير المادي يفشل فشلاً ذريعاً حين يرغب في أن يعلّل وحدة العرب وغلبتهم على غيرهم، وقيام حضارتهم، واتساع رقعتهم وثبات أقدامهم، فلم يبق أمام المؤرخين إلا أن ينظروا في العلّة الصحيحة لهذه الظاهرة الفريدة، فيرى أنها تقع في هذا الشيء الجديد: ألا وهو الإسلام”.
تلك هي شهادة شاهد من أهلها، فأي حجة بعد ذلك تنفع، إذا كان ما سبق لا يُقنع!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *