التدبر يعني الاهتمام، وبالتالي التطبيق والممارسة، وهي النقطة الأهم في حياة الأمة، “فإذا تدبرنا القرآن نقلناه إلى حقول الممارسة على الأقل، أو إلى ميادين السلوك”
التدبر هو “التفكر باستخدام وسائل التفكير، والتساؤل المنطقي، للوصول إلى معان جديدة يحتملها النص القرآني، وفق قواعد اللغة العربية، وربط الجمل القرآنية ببعضها، وربط السور القرآنية ببعضها، وإضفاء تساؤلات مختلفة حول هذا الربط أو ذاك” (رؤى في قصار السور عبد اللطيف البريجاوي).
لماذا التدبر؟
سؤال مهم وملح، ولعل الأهمية في التدبر تكمن في:
1- الامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى، فقد أمرنا بذلك فقال: “أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً” النساء “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا” محمد.
2- القرآن الكريم بحر فائض من الخيرات، ورية الرحمن للعالمين
قال الرافعي رحمه الله: “القرآن الكريم يعطيك معان غير محدودة في كلمات محدودة” (وحي القلم).
وهذا البحر الفائض من الخيرات لا بد لاستخراج الدرر المكنونة فيه من غوص وتدبر، لإيجاد حلول للمشاكل المستجدة في عصرنا وفي كل العصور، ونظرا لعظم مزايا القرآن ومعجزاته التي لا تنقضي درج المسلمون على اعتبار الإسلام قادر على إصلاح المجتمعات في كل زمان ومكان مهما تنوعت الأعراق واختلفت المشاكل والمعضلات، وهذا ما أثبته التاريخ الإسلامي، إذ عمَّ الإسلام بلدانا متنوعة وشعوبا مختلفة فكان المؤطر لسلوكها ومصدر قوتها وعزها.
3- سبب لشحن النفس نحو الخير وصدها عن الشر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرر الآية الواحدة عشرات المرات، وورد أنه قام الليل وهو يكرر قوله تعالى: “إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” المائدة، وما معنى أن يكرر الإنسان آية عشرات المرات إذا لم يكن فيها تقليب الآية والتفكر فيها، وكثير من الصحابة والصالحين كانوا يكررون كثيرا من الآيات يتفكرون وينظرون ويعتبرون.
4- التدبر يعني الاهتمام، وبالتالي التطبيق والممارسة، وهي النقطة الأهم في حياة الأمة، “فإذا تدبرنا القرآن نقلناه إلى حقول الممارسة على الأقل، أو إلى ميادين السلوك”.
5- التدبر في القرآن كان سببا في تغيير حياة كثير من الناس وأولهم الصحابة رضي الله عنهم، كان الرجل منهم قبل إسلامه يسمع القرآن فيقول والله إنه ليس بقول البشر، وما هي إلا لحظات تفكر وتدبر قليلة حتى يدخل ذلك الرجل في الإسلام ويصبح من الصحابة الكرام.
فهم قاصر!
ولعل من المفيد أن نذكر هنا أن بعض الناس فهموا بعض الأحاديث فهما خاطئا، فأعرضوا عن التدبر وانصرفوا إلى الحفظ دون التوقف والتدبر، ومن هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه” مسلم.
فمن منا لا يطمع أن يكون من خير هذه الأمة؟
“إن الصحابة عندما خوطبوا بهذا الحديث قد كانوا يعلمون معانيه سليقة” وعليه فإن معنى هذا الحديث وحتى يحصل المسلم على الخيرية لا بد أن تتوافر فيه ثلاثة أمور:
1 – التلاوة الصحيحة.
2- الفهم الصحيح.
3- التطبيق السليم. (انظر الفتح)
كيف نتدبر القرآن؟
لا بد أن تكون هناك خطوات عملية من أجل أن نصل إلى العتبة الدنيا التي نفهم بها عن رب العالمين سبحانه، وهذه بعون الله بعض النقاط:
1- الاهتمام باللغة العربية: فالقرآن الكريم نزل باللغة العربية، بل يمكن أن نقول إن اللغة العربية هي الوعاء الذي اختاره الله ليستوعب القرآن الكريم.
قال تعالى: “إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” يوسف، وقال تعالى: “وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً” الرعد، وقال تعالى: “وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً” طه.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: “العربية من الدين”، فلذلك أول خطوة في طريق تصحيح علاقتنا مع القرآن الكريم هو الاهتمام بهذه اللغة، فمن يريد أن يتعامل مع القرآن الكريم فلا بد أن يتجاوب مع لغته.
2- العمل تحت القاعدة التي وضعها المفسرون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب: وهي قاعدة مهمة حيث أن ما كان سببا في نزول بعض آيات القرآن الكريم لا يقتصر على الحادثة فقط، إنما تقاس عليها كل الحوادث المشابهة، فأسباب النزول هي وسائل إيضاحية وليست وعاء حصريا، فما نزل في الوليد بن المغيرة يقاس عليه كل من يتصف بصفاته، وما نزل في أبي لهب يقاس عليه كل من يتصف بالصفات ذاتها.
3- الاهتمام بالصحيح من تفسير القرآن الكريم، وذلك بدراسة التفاسير المعتمدة لكتاب الله عند أهل السنة ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم، والحذر من التفاسير المحدثة التي تروج لمعتقدات الفرق الكلامية الضالة، من رافضة وشيعة ومعتزلة وجهمية وقدرية..، وكذا التفاسير التي تولى كبر نشرها في الأمة العلمانيون والمستشرقون محاولة منهم تشويه معاني القرآن، وخلق الفتنة، وبث الشبهات، حتى يصرفوا الناس عن التطبيق الصحيح لمعاني القرآن الكريم.
4- عدم أسر أنفسنا بالإسرائيليات التي تخالف ديننا أو تلك التي لا يترتب عن البحث فيها علم نافع أو عمل شرعي، والتي وردت في بعض كتب التفسير، لأنها تشكل عقبة في فهم القرآن وتخرجنا عن مقاصده العامة بالإضافة إلى المخالفات الشرعية الموجودة فيها.
إن إعادة النظر في صلتنا بالقرآن الكريم والعمل على تمتينها هي مسؤولية الجميع، ابتداء من المسؤولين على القطاعات العامة وفي مقدمتها المؤسسات التعليمية والتربوية والثقافية، دون أن ينقص من مسؤولية راعي البيت المسلم سواء كان زوجا أو أمّا أو جدّا أو أبا امتثالا لقول الصادق المصدوق: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه” فعلى المسلم أن يكون له ورد من القرآن لا يتخلف عنه، وأن يحث أبناءه ومن هم تحت مسؤوليته على أن يكون لهم ورد من القرآن كذلك، وحبذا لو اجتمع أهل البيت كافة على حفظ القرآن وتعلمه، فإن ذلك مما يعين على تدبره واستيعاب معانييه.
فيا ربنا أعنا على تلاوة كتابك، واجعل هذه التلاوة محفوفة بالتدبر والفهم والتطبيق، واجعل القرآن حجة لنا ولا تجعله حجة علينا، واجعله شفيعا لنا في الموقف العظيم، آمين.