يثير طرح موضوع «حقوق الإنسان» بصيغته المعترف بها دولياً الآن على العالم الإسلامي حزمة من التحديات والإشكاليات التي تمسه مساً مباشراً في ثقافته وسمعته وسيادته، ولعل أبرز هذه الإشكاليات حضوراً، والتي من المفترض أن يدرجها العقل المسلم على رأس قائمة أولوياته هي إشكالية «المرجعية»: بمعنى أن السؤال عن المعايير والضوابط والأحكام التي تقرر ماهية «الحق الإنساني» من عدمه، يظل هو السؤال الذي من الواجب شرعاً أن تكون إجابته واضحة ومحددة سلفاً، قبل الانسياق وراء أية دعاوى عن حقوق الإنسان، تكون صادرة عن «اجتهاد بشري»، علماني أو لا ديني، فالمرجعية في مثل هذا الموضوع، أو في غيرها بالنسبة للمسلم ليست ترفاً فكرياً، أو سفسطة فلسفية، وإنما هي قضية تمس عقيدة التوحيد في جوهرها.
وفيما يتعلق بالتفسير السائد الآن لـ«حقوق الإنسان»، والمفروض علينا منذ نصف قرن تقريباً، فإن الموقف منه لا يحتمل التردد، وإنما يحتاج إلى ما يشبه «المفاصلة» معه، دونما اكتراث بعبارات التوبيخ التي عادة ما يطلقها العلمانيون لإرهاب خصومهم فكرياً وثقافياً، إذ إن المرجعية المعتمدة الآن عالمياً، في تأطير نمط «الحق الإنساني» المشروع، وتقرير ما هو دون ذلك، هي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تبنته الأمم المتحدة منذ خمسين عاماً تقريباً. هذا «الإعلان المرجعية» هو في واقع الحال: وثيقة غربية متحيزة، استجابت فقط لرغبات وشهوات الإنسان الغربي، وتبنت تفسير الأخير لـ«حقوق الإنسان» الذي ينظر إلى الإنسان باعتباره مخلوقاً نفعياً، مبلغ همه في الدنيا تحقيق أقصى درجات «اللذة والاستمتاع»!!
وهو منحى ينزل الإنسان منزلة تجعله أكثر قرباً من «الحيوانية» التي أدانها القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} (محمد:12)، وفي الوقت نفسه فهي شديدة التناقض في كثير من جوانبها مع الرؤية الإسلامية التي تنظر إلى الإنسان بوصفه مخلوقاً صاحب رسالة، ومكلفاً بإعمار الأرض والدفاع عن الحق والفضيلة؛ فضلاً عن أنها تأسست على مبدأ «النسبية» الذي يرفض الاعتقاد بثبات القيم والأخلاق والعقائد الدينية؛ فما يراه الناس اليوم بأنه «غير أخلاقي» قد ينال غداً اعتراف الجماعة الغربية به على أنه «أخلاقي»، وما كان بالأمس عملاً تدينه التقاليد والأعراف بل والقوانين السائدة قد يتحول بمضي الوقت في العالم الغربي إلى عمل مشروع، وقد يمسي حقاً من «حقوق الإنسان» التي يوفر لها الغرب المشروعية بل الحماية الدولية أيضاً.
فعلى سبيل المثال كانت ممارسة الجنس قبل الزواج تواجه معارضة شديدة وقوية في الغرب حتى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما كان هناك قوانين تحظر مثل هذه الممارسة مع غير الزوج؛ أما اليوم فقد أصبح الجنس قبل الزواج أمراً شائعاً بموافقة المجتمع والوالدين أيضاً. وفي هذا الإطار فإن أفعال الشذوذ الجنسي بين الذكور كانت تعتبر جريمة في بريطانيا “العظمى” حتى الستينيات، على الرغم من أن الشذوذ بين الإناث (السحاق) لم يكن ممنوعاً قانوناً، أما الآن فقد أصبحت مثل هذه الأفعال بين البالغين والتي تتم برضاهم، سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً قانونية في معظم دول الغرب؛ بل باتت غالبية العالم الغربي ترى أن القوانين الصادرة ضد الشذوذ الجنسي ما هي إلا انتهاك لـ«الحقوق الإنسانية» للشواذ من الرجال أو النساء!!
بل إن الكنيسة في عدد من الدول الغربية أباحت «الزواج» المثلي بين الشواذ، وسنت القوانين والتشريعات التي تحفظ «الحقوق» المترتبة على عقد الزواج في النفقه والميراث وتبنِّي الأطفال وغير ذلك..!!
ومنذ ثلاثة عقود مضت اتخذ المجتمع الغربي موقفاً مشدداً إزاء عملية إنجاب أطفال من نطفة مجهولة النسب، واستند في ذلك إلى أن هذا المنحى يعد عملاً غير أخلاقي يخلِّف مشكلات اجتماعية ونفسية بالغة القسوة للأطفال الذين يجري إنجابهم على هذا النحو؛ أما الآن فقد بات من «الحقوق الإنسانية» -بل القانونية- للمرأة أن تلجأ إلى إحدى بنوك الحيوانات المنوية المنتشرة هذه الأيام في طول البلاد الغربية وعرضها، وتقوم بعملية تلقيح صناعي تنجب على إثره أطفالاً لا يعرف بالتحديد من هم آباؤهم.
والتفسير الغربي لحقوق الإنسان الذي يتبناه الإعلان العالمي المشار إليه فيما تقدم تتسع مظلته لحضانة كل ما يفرزه تصور الإنسان الغربي بنسبية القيم العليا للمجتمع، من تحولات أخلاقية وما شابه؛ وهو على هذا النحو يتعارض تعارضاً جوهرياً مع ما يعتقده الإنسان المسلم بكمال مصدري التشريع الأساسيين وقداستهما: كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.