أعداء الوحي.. أصحاب قراءة انتقائية

الناظرُ في كلام العلمانيين؛ والمتتبعُ لمقالاتهم ودراساتهم حول الدين وكل ما تعلق بالمجال الشرعي يدرك أميتهم الدينية؛ وفهمهم المعوج والمشوه لنصوص الشريعة؛ ويوقن أنهم يقرؤون الإسلام قراءة انتقائية؛ قراءة لا يتطلعون من ورائها إلى فهم أمر الله وحكمه وامتثال أمره؛ وإنما يصبون من ورائها إلى إفراغ الدين من محتواه؛ ولي أعناق النصوص لتخدم مشروعهم؛ وتمكنهم من الوصول إلى مرادهم؛ حتى إن ادعى الأمرُ تحريفَ الكلم عن مواضعه؛ وإخفاء الحقائق البينات الواضحات.

ولئن كان منهم سذج مخدوعون؛ فإن كثرة منهم أشرار فتانون؛ يحرفون الكلم عن مواضعه؛ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.
فلا غرابة بعد ذلك إن وجدناهم يطعنون في الوحي باسم العقل تارة، وباسم العلم تارات أخرى؛ ويلقون حبالا وعصيا في سبيل كل من سعى إلى التمسك بالكتاب المبين وبسنة سيد المرسلين عليه صلوات رب العالمين. وتشتد حربهم ويعظم مكرهم خاصة على من عزم أن يكون سلفيا على الجادة.
فنحن إذا نظرنا إلى ما كتبه أعداء الوحي من العرب عموما فإننا نجدهم -كما ذكر الدكتور سعيد الغامدي- لم يخرجوا عما كتبه الغربيون من يهود ونصارى عن التوراة والإنجيل، كاليهودي الأصل باروخ سبينوزا، وريشار سيمون، ودافيد فريدريش شتراوس، ورينان جوزيف أرنتس، وبولتمان رودولف، وهؤلاء الخمسة هم أشهر فلاسفة الغرب الذين أسسوا مناهج فلسفية نقدية وتاريخية لدراسة الوحي المتمثل لديهم في الكتاب المقدس، وقد سار العلمانيون العرب على منوال هؤلاء، واستعاروا مفرداتهم ومناهجهم، وارتدووا أزياءهم الفكرية والفلسفية، ومن يقرأ كلام معظم العلمانيين العرب يدرك بوضوح مقدار تشربهم لهذا المنهج؛ إلى درجة أنه أصبح يمثل بالنسبة لهم عقيدة يزنون بها الكتب المنزلة وكل قضايا الوحي ومقتضياته.
فالدين عند “معتدليهم” -أقول عند معتدليهم!!- هو سلوك فردي فقط! ولا دخل له في تأطير أي من مجالات الحياة؛ فلا دخل له في سياسة ولا اقتصاد؛ ولا اجتماع ولا ثقافة؛ ولا فن ولا تبرج ولا زنا ولا خمر ولا ربا؛ ولا سلم ولا حرب أو غير ذلك..؛ إنما هو اختيار فردي يتساوى فيه المسلم والنصراني واليهودي والبوذي..؛ وهلم جرا.
وقولهم هذا يذكّر كل تالٍ لكتاب الله تعالى.. مقلب لصفحاته.. متدبر لمعان آياته؛ بصنيع أهل مدين لما قالوا لنبي الله شعيب عليه الصلاة والسلام حين دعاهم إلى التوحيد وترك البخس والنقص في المكيال والميزان، {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَاًمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} (هود)، أي يا شعيب: ما دخل صلاتك وعبادتك بحياتنا الاقتصادية، وباتباعنا لما كان يعبده آباؤنا من قبل؟!
والشبهات التي يثيرها العلمانيون اليوم حول الدين والأخلاق والقيم وغير ذلك؛ هي الشبه نفسها التي ألقاها سادتهم الغربيون؛ الذين تمردوا على تسلط الكنيسة وطغيانها وظلمها وجبروتها؛ وهي الشبه التي أثارها المشركون الأول إبان بعثة الرسل وإنزال الكتب.
فها هم المشركون يعصون أمر الله تعالى ويحاجون نبينا محمدا صلوات ربي وسلامه عليه لما أنبأهم أن الله حرم عليهم الميتة؛ وما ذبح للأوثان والجن وما لم يُذكر اسم الله عليه مما كان المشركون يذبحونه لأوثانهم، فما كان جوابهم إلا أن قالوا مستهزئين: “ما ذبح الله فلا تأكلوه، وما ذبحتم أنتم أكلتموه؟!”.
فرد الله تعالى افتراءَهم؛ وكشَفَ زيفَ دعوتهم بقوله سبحانه: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (الأنعام:121).
فانظر أيها القارئ الكريم إلى هذه الشبهة من جهة العقل؛ فإن لها بريقا عند سماعها لأول وهلة؛ لكن سرعان ما ينكشف زيفها ويتضح عوارها حين تسطع شمس الحقيقة؛ ويرتفع صوت الحق محذرا عباده من سلوك هذا السبيل المنحرف عن الوحي؛ واتباع غواية الشيطان؛ بقوله: {وَإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.
علق العلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان (7/170) على هذه الآية الكريمة بقوله: “فهي فتوى سماوية من الخالق جل وعلا؛ صرح فيها بأن متبع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن: مشرك بالله”.
قال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: “المجادلة المذكورة من قبل؛ مجادلة في الدين بتحسين أحوال أهل الشرك وتقبيح أحكام الإسلام التي منها تحريم الميتة؛ وتحريم ما ذكر اسم غير الله عليه، فلما حذر الله -تعالى- المسلمين من دسائس أولياء الشياطين ومجادلتهم بقوله: وإن أطعتموهم إنكم لمشركون أعقب ذلك بتفظيع حال المشركين، ووصف حسن حالة المسلمين حين فارقوا الشرك، فجاء بتمثيلين للحالتين، ونفى مساواة إحداهما للأخرى؛ تنبيها على سوء أحوال أهل الشرك وحسن حال أهل الإسلام” .اهـ
فقال سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
قال ابن كثير: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتا أي: في الضلالة هالكا حائرا؛ فأحياه الله، أي: أحيا قلبه بالإيمان، وهداه له ووفقه لاتباع رسله.
“وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ” أي: يهتدي به كيف يسلك، وكيف يتصرف به. والنور هو: القرآن، كما رواه العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس .وقال السدي: الإسلام. والكل صحيح .
“كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ” أي: الجهالات والأهواء والضلالات المتفرقة، “لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا” أي: لا يهتدي إلى منفذ، ولا مخلص مما هو فيه. اهـ
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله*** فأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرأ لم يحى بالعلم ميت***فليس له حتى النشور نشور
فكيف يستبدل عاقل نور الإسلام والقرآن والسنة بجهالات وضلالات وأهواء الفرق المنحرفة؛ والمذاهب الفلسفية والمادية والإلحادية؟!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *