لم تكن فتوى (قتل المرتد) التي أصدرها المجلي العلمي الأعلى فتوى شاذة؛ ولا (رأيا فقهيا) كما صرح وزير الأوقاف أحمد التوفيق؛ ولا فتوى حمقاء منبعثة من العصور الغابرة تجاوزها تاريخ (الفقه الجديد)!! كما عبر المتطرف عصيد؛ ولا هي أيضا فتوى مخالفة لحقوق الإنسان؛ بل هي حكم عادل منسجم مع الفطرة والتشريع الجنائي؛ وما هو مقرر في الشريعة الإسلامية بالكتاب والسنة والإجماع.
صحيح أنها فتوى لا أثر لها في واقعنا؛ بحكم أن كثيرا من أحكام الشريعة معطلة في شتى مجالات الحياة؛ ولا زالت بقية قليلة جدا منها تتعرض لهجوم شرس من قبل العلمانيين؛ إضافة إلى أن الخطة التي دأب أتباع هذا التيار منذ القديم على اتباعها هي حصر الإسلام في الحدود الشرعية؛ وقطع يد السارق وجلد الزاني؛ وهذا تلبيس وافتراء؛ بحكم أن الإسلام نظام متكامل؛ وكُلٌّ لا يتجزأ؛ لا يقبل تطبيقه في الجنايات والحدود؛ وتغييبه وتعطيله في الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع.. ؛ ورغم ذلك كله تبقى فتوى المجلس العلمي الأعلى تستند إلى أدلة صحيحة ثابتة.
وأما بخصوص الطعن في الفتوى ومهاجمة من صدرت عنه؛ فالهدف المعلن للجمعيات الحقوقية -ذات التوجه العلماني- وبعض من ينسبون إلى الثقافة وراء الهجوم الشرس على هذا الحكم الشرعي؛ مقابل المطالبة الملحة بإلغاء عقوبة الإعدام، هو إغلاق باب النقاش العمومي حول جدوى تطبيق الأحكام الجنائية انطلاقا مما نصت عليه الشريعة الإسلامية؛ الدين الرسمي للدولة؛ والتي أظهر استطلاع للرأي؛ أعده مؤخرا معهد “بيو” الأمريكي للدراسات؛ أن 83 في المائة من المغاربة المستجوبين يؤيدون تطبيقها.
فالتعصب والفوبيا من الإسلام وأحكامه تحجب عنهم الرؤيا؛ وتحول دون فتح نقاش علمي وهادئ حول جدوى مثل هاته الحدود؛ وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى بيان؛ فالمجلس العلمي الأعلى مؤسسة دستورية؛ بعيدة عما يسميه التيار الاستئصالي بالمتطرفين؛ إضافة إلى أنه مجلس يرأسه الملك، ولم يكن بوسع العلماء الرسميين الذين أصدروا الفتوى؛ وهم من أهل الاختصاص بالعلوم الشرعية؛ ويعلمون قطعا ما ورد في كتب الفقه والتشريع الجنائي الشرعي من نصوص قطعية في هذا المجال؛ لم يكن بوسعهم إطلاقا مخالفة الكتاب والسنة والإجماع؛ وما هو متفق عليه أيضا في الفقه المالكي.
وهي بالمناسبة فتوى موافقة لكل المراجع الفقهية المعتبرة في العالم الإسلامي؛ ويكفي الباحث أن يرجع إلى ما حرره المجلس العلمي الأعلى للشؤون الإسلامية في جامعة الأزهر ليتبن له الأمر.
إن الردة أشد أشكال الإخلال بالنظام العام في مجاله الفكري؛ إذ المجال الفكري وما يصدر عن كل شخص من أفكار ونظريات نابع من مرجعيته العقدية بالأساس؛ والإسلام جاء لحفظ الضروريات الخمس؛ ومنها الدين والعقل؛ والاعتداء عليهما أو المس بهما؛ اعتداء على وحدة الأمة والنظام العام للدولة في المجال الاعتقادي والفكري.
فلا إكراه في الدين؛ كما هو مقرر ومعلوم؛ وليس من حق أحد أي كان -رغم أن الإسلام هو الدين الحق- أن يكره غيره على الدخول فيه عنوة؛ وحال أهل الذمة الذين كانوا يعيشون بين أظهر المسلمين وهم على دينهم الباطل خير دليل.
لكن من دخل في الإسلام فعليه أن يلتزم بما جاء فيه من أحكام؛ ومنها العقوبة الوارد في حالة الردة. وهذه ليست حالة شاذة في شريعة الإسلام؛ فالشرائع السابقة والقوانين الوضعية تحكم بقتل من ارتكب جريمة الخيانة العظمى، دون أن تلتفت إلى الحرية الشخصية وحرية المعتقد في هذا الباب، وقد أيد اتجاهها هذا عدد من الفلاسفة والمفكرين منهم روسو وفولتير ومونتسكيو وغيرهم.
بل بعض الدول الغربيّة التي ألغت عقوبة الإعدام عادت فأقرتها من جديد مثل إيطاليا والاتحاد السوفياتي سابقا؛ بحجّة أن من ارتكب جرمًا خطيرًا أو شديد الضرر فعليه أن يدفع حياته ثمنًا لإثمه الكبير، وكونها عقوبة ضرورية لتخليص المجتمع من الأشخاص الخطرين، وأنها تصرف عن الإقدام على الجريمة. (انظر: علم الإجرام والعقاب للدكتور عبّود السرّاج؛ وأساسيات علم الإجرام والعقاب للدكتور فتوح الشاذلي؛ والنظريّة العامة لقانون العقوبات د. سليمان عبد المنعم ص:729 فما بعدها، وجريمة الردة؛ د.هاني الجبير).
والتساهل في هذه العقوبة يؤدي إلى زعزعة النظام الاجتماعي القائم على الدين، فكان لابد من تشديد العقوبة لاستئصال المجرم من المجتمع ومنعًا للجريمة وزجرًا عنها، وشدة العقوبة تولّد في نفس الإنسان من العوامل الصارفة عن الجريمة ما يكبت العوامل الدافعة إليها، ويمنع من ارتكاب الجريمة في أغلب الأحوال( )، ويطلق على هذا المبدأ: مبدأ التناسب بين الجريمة والعقوبة.
وقد كفانا المستشرق المجري الدكتور روبرت سيمون الرد على كثير مما يشغب به العلمانيون على هذا الحكم الشرعي فقال: (لقد أخطأ عدد كبير من المستشرقين في فهم حرية العقيدة الدينية، فالمرتد هو المسلم الذي ينكر ما جاء في دينه الإسلامي .. ولاشك أن قتل المرتد لا يمكن أن يكون عقوبة على الكفر ذاته؛ فقتل المرتد عن الإسلام كما جاء في الشريعة الإسلامية لا يتعارض أبداً مع الحرية الدينية التي قررها الإسلام، ونحن نرى أن أعظم الدول تطبيقاً للنظام الديمقراطي في العالم تعاقب كل من يرتكب جريمة الخيانة العظمى دون أن تمس هذه العقوبة الحرية المكفولة للناس بمقتضى القانون والدستور، والدليل على سوء فهم الذين يردّدون ذلك أن غير المسلمين من يهود ونصارى .. قد كفل لهم الإسلام حرية العقيدة دون إكراه أو اضطهاد.. لذا فإنني أؤكد أن قتل المرتد عن الإسلام إنما يكون لجريمة الخيانة العظمى والمكيدة التي قام بها ضد المجتمع الذي عاش فيه وبالنظام العام الذى تقوم عليه الدولة).
وليست هذه دعوة إلى تطبيق الحدود؛ بقدر ما هي دعوة إلى الرجوع إلى أصلَيْ التشريع والحكم وهما القرآن والسنة؛ فتطبيق الحدود وحده لن يحل المشكلة؛ إذا بقيت المجالات الأخرى معطلة فيها أحكام الشريعة.
وفي الختام ألفت انتباه بعض المتدخلين في هذا الموضوع أن تعطيل الأحكام الشرعية لا يعني تعطيل عرضها والدفاع عنها؛ والسعي بعلم وحكمة إلى الإقناع بها بأساليب مقبولة.