ديوان خطب الجمعة من إنشاء العلامة الأديب محمد بن الأمين بوخبزة التطواني حقوق الطفل في الإسلام إعداد: يونس السباح الطنجي

الحمد لله البرّ الكريم، الرؤوف الرحيم، الذي كرّم الإنسان لإنسانيته، ورفع من شأنه لآدميته، نشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، ونشهد أنّ سيّدنا محمداً عبده ورسوله، سيّد الرحماء المشفقين، اللهم صل وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الهادين المهتدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، من يطع الله ورسوله فقد رشد واهتدى، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى واعتدى، ولا يضرّ إلاّ نفسه ولا يضرّ الله شيئا.
أما بعد، فإنّ أصدق الحديث كتاب الله تعالى..
أيها المسلمون: قال الله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خطأ كبيرا) صدق الله العظيم.
إنّ الإسلام دين الله الخالد، الذي ارتضاه للبشرية نظاماً، وللأنام هادياً وإماماً، حاط الطفولةَ برعاية تامّة، ورحمة عامّة، وعناية فائقة، وتشريعات رائقة، وخصّها بأحكام انفرد بها بين الشرائع السماوية، وتميّز بها عن النظم الوضعية، بلغ بها المنتهى في العدل والإنصاف، وتنكّب طريق الظّلم والإهمال والاعتساف، ذلك لأنه نظام الله تعالى، ومنهاجه المرتضى للخلق، والله أعلم بمصالح عباده، وأرحم بالطفل من والديه، وقد أنزل الله زواجره المقلقة، متوعّدا عرب الصحراء الجهلة، ناعياً عليهم عادة الوأد وقتل الأولاد خوف الفقر والهوان، فقال تعالى: (وإذا بشّر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودّا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون).
وحكم سبحانه بأن ذلك جريمة منكرة، وخطيئة عظيمة، وأوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بأصول وقواعد تتضمّن حقوق الأطفال، وترفع من شأن الطفولة، فأوجب على أبوي الطّفل تربيته الدينية، والعقلية، والجسمية، والخلقية، والنفسية، وفرض إرضاعه وحصانته، والإنفاق عليه دون إهمال ولا تقصير، قال تعالى: (وعلى المولود له -وهو الأب- رزقهنّ -أي المراضع والوالدات- وكسوتهنّ بالمعروف). وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا)، ووقاية الأهل والأولاد من النار تكون بالتربية الدينية والخلقية الصحيحة، وجعل للأمّ حضانة ولدها، لأنها أحق به، وأشفق عليه، وأقدر من الرجل على القيام بتربيته، لما فطرت عليه من عطف وحنان.
جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، إنّ ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعه مني، فقال عليه السلام، أنت أحق به ما لم تنكحي -أي تتزوجي-. رواه أحمد.
وأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ من يفرّط في حقوق أولاده وأهله، ويعرّضهم للضياع، فإنّه يقترف الإثم كلّه، ويأخذ بأطراف الإجرام، فقال: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول)، ومن اهتمام الإسلام بشأن الأولاد في صدد النفقة، واحتياطه لهم، أنه أباح للمرأة أن تأخذ من مال زوجها بدون إذنه، ما يكفي لنفقتها ونفقة أولادها بالمعروف، إذا كان بخيلا، يضيق عليهم في ذلك.
استفتت هند زوجُ أبي سفيان، رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن، فقال لها: (خذي ما يكفيك و وَلَدَك بالمعروف)، وهكذا أعلنه سيد البشر حكما غيابياً لا يقبل التعرض و لا الاستئناف، رعايةً لحقوق الطفل التي يتحيّفها الوالد، بسبب بخله أحيانا، كما مَنَع الآباء من الوصية بأكثر من الثلث بعد موتهم، حتى لا يتعرض الورثة، و فيهم الأولاد للضياع، فقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقّاص: الثلث والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.
ألا ما أرحم الإسلام و نبي الإسلام بالأطفال والأولاد، وياما أرقّ ذلك القلب العظيم، وأشفق ذلك الفؤاد الرحيم، الذي كان يخفق بين حنايا سيّدنا محمد، الرحمة المهداة إلى الخلق، كلّما سمع بكاء طفل وهو في الصلاة، فيخفف من صلاته رحمة بالأم وولدها، ويحمل أمامه بنت بنته زينب، وهو في الصلاة، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها، ويرى حفيده الحسن يتعثّر في ثوبه وهو على المنبر فينزل وبرفعه ويقول: (ما قدرت إن رأيته حتى رفعته إليّ) أو كما قال.
وجاء حفيده الحسين فوجده ساجداً فرقي ظهره، فبقي صلى الله عليه وسلم ساجداً إلى أن نزل الولد، فقيل له في ذلك فقال: إنّ ولدي ارتحلني -اتخذني راحلة- فكرهت أن أُعجله، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في سيرته، أنّه كان يسلم على الأطفال ويداعبهم، ويشمهم ويقبّلهم، ويأمر بالعطف عليهم، وإيثارهم بالعطاء، وينهى عن التميّز بينهم، حتى في القبلات والنظرات، فكيف بالعطايا والهبات، لما ينشأ عن التمييز بينهم من العداوة والبغضاء.
أما اليتيم الذي فقد أباه، وحرم عطفه، فقد بالغ الإسلام في العناية به، والاهتمام بأمره، ورعاية لشعوره، ومواساة لحاله، وجبراً لقلبه الفتي، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فأما اليتيم فلا تقهر) وقال تعالى: (أرايت الذي يكذّب بالدّين فذلك الذي يدعّ اليتيم)، فجعل الذي يكذّب بالدين هو الذي يطرد اليتيم وينهره، ولا يحضّ على طعام المسكين، وبشّر صلى الله عليه وسلّم المحسن إلى اليتيم والقائم بكفالته بمرافقته في الجنّة، فقال: (أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى) رواه البخاري. وأمر بالمحافظة على أموال اليتامى وتنميتها، وعدم التفريط فيها، وتسليمها إليهم، كاملة وافرة عندما يرشدون، وتوعّد أكلة أموالهم بأكل النّار، قال تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتّى يبلغ أشدّه)، وقال: (وابتلوا اليتامى حتى أذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم، ولا تاكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا) وقال سبحانه: (إنّ الذين ياكلون أموال اليتامى ظلما إنما ياكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا)، وبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّ أكل النّار في هذه الآية حقيقة لا مجاز، فرآى من مشاهد العذاب والمعذّبين في الملأ الأعلى في معراجه العجيب، قوماً يلقمون رضف النار –أي: تدسّ في أفواههم حجارة محماة، ثم تخرج من أدبارهم وهم يصيحون ويستغيثون بشكل مزعج، فقال لجبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذي يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما ياكلون في بطونهم ناراً.
أمّا اللقيط، وهو الطفل المجهول الأب، والذي يوجد غالبا منبوذا في الخلوات فيلتقط، فمن أحقّ بالرحمة منه، ولماذا يحرم العطف والرعاية وهو برئ، ومن مبادئ الإسلام الخالدة، أنه لا يؤاخذ البريء بذنب المجرم، والمجرم والداه لا هو، قال تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى).
لذلك، أوجب الإسلام العناية به، وحرّم تضييعه وإهماله، والمجتمع الإسلامي كله مخاطب بالقيام حكومة وشعباً، فإن لم يفعلوا أثموا جميعا، ولا تظنوا -أيها المسلمون- أن بناء الملاجئ والمياتم، لإيواء العجزة واليتامى واللقطاء، عمل مستحبّ فقط، كما يتوهم من تسميتها مؤسسات خيرية، بل إنّ قواعد الإسلام وأصوله، وأدلّة شريعته، قاضية بوجوب ذلك وجوب كفاية، وهذا ما أعلنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حجة الوداع إذ قال: (من ترك دينا أو مالاً فلورثته، ومن ترك ضياعا فإليّ وعليّ).
أيها المسلم، إذا رأيت ولد مطروحاً في الشارع، في مكان يخشى عليه فيه الهلاك، بالبرد والجوع أو غير ذلك، فيجب عليك إنقاذه، بضمه إليك إن استطعت، أو إبلاغ المسؤولين عنه، ولا يجوز لك إهماله، لأنه نفس بريئة، وقد قال تعالى: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)، ولك من الله الأجر الجزيل، إن توليت تربيته وكفالته، حتى يبلغ أشدّه، قال صلى الله عليه وسلم: ( ليس منّا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا) رواه الترمذي، ولا تتوهمنّ أنّه سيناله شيء من ذنب أبويه، فله الغنم، وعليهما الغرم.
وقد اعتاد النّاس أن ينظروا نظرة ازدراء واحتقار إلى اللقيط، وهذا من الجهل بالدّين، وسوء التربية، وساعد على بقاء هذا الوضع، حكم بعض الفقهاء بكراهة إمامة ولد الزنا، وهو حكم جائر لا دليل عليه، ومثله احتقار الداخل في الإسلام، وتعييره بدينه الأول، وهذا إجرام قبيح، والإسلام بريء منه، وقد ألصق الملحدون والكذّابون بصحيفة الإسلام النقية راموا بها وصمة، فوضعوا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث في التنفير من ولد الزنا، وأنّه لا يدخل الجنّة، ومعاذ الله أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من هذا، وهو قد رحم ولد الزنا الذي اعترفت أمه أمامه بوضعه في الحرام، فأمرها أن ترضعه إلى الفطام، فلما رجعت به، وبيده كسرة خبز، دفعه لأحد الصحابة لتربيته، والقيام به، وأمر بأمّه فرجمت، رحمة الله عليها، ورحم الله الفاروق عمر، وقد أتاه رجل بلقيط فقال: (نفقته علينا، وهو حرّ). وأتي علي بن أبي طالب رضي الله عنه بلقيط فقال: (هو حرّ، ولأن أكون وليتُ من أمره مثل الذي وليت منه، أحبّ إلي من كذا وكذا). يعني أنه تمنّى أن يكون هو الذي التقط ذلك اللقيط، ومن روائع أحكام الإسلام، أنّ اللقيط من بين النصارى أو اليهود أو غيرهم، لا يجبر على الإسلام بعد البلوغ، بل تترك له حريته، ومن ادّعى نسب لقيط ثبت له، دون قيد ولا شرط، لما في ذلك من النفع له بظهور نسبه.
وقد أبطل الإسلام عادة التبني لما فيه من اختلاط الأنساب، والغش، والخداع، لأبنائه على رباط وهمي لا حقيقي، ولكنّه أذن في التنزيل، أي: تنزيل ولد أجنبي منزلة الولد للصلب في الإرث، فكان كالوصية بالمال، وهذا لا ضرر فيه، وإنّما هو رعاية للطفل، وإرادة الخير له، بخلاف التبني، قال تعالى: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم، وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمّدت قلوبكم).
أيها المسلمون: هذه بعض الأحكام العادلة، والأيادي البيض التي أسداها الإسلام للطفولة والأطفال، ومن تتبعها من مصادره الأصيلة، وقف على درر وغرر، تتضاءل أمامها حياءً وحقارة جميع أنظمة البشر وقوانينهم، لأنها منهج الله وشريعته وصبغته، ومن أحسن من الله صبغة، وما شقى المسلمون، وسفُلوا إلاّ يوم أن فرطوا في جنب الله، وتنكّبوا منهجه، وقلدوا القوانين المحتلة، والنّظُم المستوردة، فكان من نتائج ذلك هذا التشرّد الفاضح، وتكاثر اللقطاء، الآتي من انتشار الزنا والاختلاط، وهذا الإقبال المتزايد من الأطفال على تعاطي المخدرات، والتّدخين، وشرب الخمر، وهم في عمر الزهور، فهل هذا من الإسلام وتقاليد المسلمين وعوائد مجتمعاتهم، كلاّ وألف كلاّ، بل ما هذا والله إلا ظلام من الغرب، أودعه الاستعمار أمانة عند تلامذته ومريديه، وأوصاهم بالحفاظ عليه، واستثماره فينا، وها هو ماثل بيننا، وسمومه سارية بين أظهرنا، ولا مغيّر، ولا نكير.
فاللهم اهد ولادة أمورنا للرجوع إلى الحق بإذنك، وإحياء أحكام شريعتك، حتى تنزاح عنّا الكربات، ونسعد في الحياة وبعد الممات، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *