الخمور لتخدير العقل وتفكيك الأسرة

كانت الحركة الوطنية البورجوازية تسعى إلى صهر الشعب في وحدة روحية ووجدانية تنطلق من الأخلاق الدينية، إلا أن مساعيها اصطدمت بانتشار الخمور واستفحال استهلاكها بشكل يهدد طبائع المواطنين وعاداتهم وتطورهم الاجتماعي. وألقى العالم السياسي باللائمة على الأوربيين: “لولا الأجنبي ما دخلت الخمور للبلاد، ولا تكونت معاصر وحانات تسهل الشرب على من أراد، وتفتح مجال القدوة للجميع”. علال الفاسي النقد الذاتي، م.س. ص314.

والوقائع التاريخية التي سجلها مغاربة آخرون تؤكد أن صناعة الخمور بالمغرب سبقت بعشرات القرون وصول الأجانب إلى البلاد. وكانت الخمور منتشرة في مدينة سجلماسة بين المغرب وافريقيا. وحينما احتلها المرابطي عبد الله بن ياسين (1055م) وهزم أميرها مسعود المغراوي أحرق الدور التي كانت تباع فيها الخمور. الناصري, الاستقصا 2/12.
وفي القرن الحادي عشر ركز محمد بن تومرت مؤسس دولة الموحدين (1130-1269م) دعوته على محاربة الخمر وهاجم رفقة أنصاره أماكن بيعها وكان يؤاخذ على خصمه الأمير علي بن يوسف المرابطي إطلاق الحرية لبيع الخمور وذيوع الخنازير.المرجع نفسه ص84.
وفي القرن السادس عشر أورد الجغرافي ابن الوزان (1483-1552م) روايات كثيرة عن صناعة الخمر في المناطق التي زارها. فقد كان سكان “أزجن” البعيدة عن فاس بسبعين كيلومترا يتمتعون بامتياز من طرف الملوك القدامى ويتمثل في السماح لهم بشرب الخمر وليس منهم من لا يشربه. وصف إفريقيا، م.س.ص273.
وكانت فاس ومكناس وتطوان بيوتا مسلمة تتوارث أبا عن جد صناعة الخمور. وكان تعاطي الخمور يتسبب في جرائم مثل تلك التي اقترفتها امرأة في حق صديقها لما دست له سما في كأس خمر وقتلته عام 1820م. تاريخ الضعيف، 2/685، م.س.
وعندما استقر التجار الأجانب والدبلوماسيون ببعض الموانئ المغربية وخاصة طنجة والصويرة وآسفي, وتمادوا في ترويج المشروبات الكحولية وسط المغاربة، وكانوا يتجاوزون الكميات المسموح لهم باستيرادها لاستهلاكهم الشخصي بغية تحقيق هدفين اثنين: استقطاب المزيد من الجواسيس استعدادا لغزو البلاد عسكريا وكسب أرباح مالية من بيع الخمور.
وفي رسالة من السلطان مولاي عبد الرحمن (1822-1859م) إلى ممثله القائد محمد بن سعيد السلاوي يستنكر فيها ما يقوم به الأوربيون من نشر الخمور وسط رعاع المسلمين الذين “يشربون الخمر جهارا ويعربدون في الشوارع” .(1)
وليس الرعاع مدمنين وحدهم على شرب الخمر كما جاء في رسالة السلطان، فهناك وثائق أخرى تتحدث عن بعض الفقهاء ورؤساء الزوايا المولوعين بالمشروبات الروحية، وكان على رأسهم رئيس زاوية وزان مولاي عبد السلام الذي كان يعربد ويأتي بأبشع الأفعال التي لا تخطر على البال .(2)
وعلى منواله صار الحاج محمد المصلوحي رئيس زاوية تامصلوحت بالقرب من مراكش الذي كان لا يرفض تناول “عصير العنب” .(3)
وأشار قناصل انجلترا في الجديدة والرباط وطنجة في تقاريرهم أن الإقبال الكبير للمغاربة على استهلاك الخمور في تصاعد مطرد .(4)
وتكررت الجرائم الناتجة عن السكر، وأصدر سيدي محمد بن عبد الرحمن (1859-1873م) الأمر إلى أمناء ميناء الصويرة بمنع استيراد الخمور التي تزيد عن حاجة السكان النصارى واليهود بعد أن تأكد استيراد كميات كبيرة لبيعها للمسلمين .(5)
وكانت مختلف أنواع الخمور تستورد من إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وانجلترا وأمريكا، وتعرض في الأسواق بثمن بخس، ولم يتجاوز ثمن زجاجة “البيرة” بسيطة واحدة، ومن حدود الموانئ بدأت الخمور تغزو المناطق الداخلية.
وكان بفاس سنة 1902م ستة من كبار مستوردي الخمور، وثلاثون من الباعة بالتقسيط .(6)
وحسب إحصاء أجرى في غضون 1892م فإن عدد الحانات والمقاهي التي كانت تبيع الخمر بطنجة بلغت 110 منها 53 مقهى مغربية و57 حانة أوربية، وحاول الملك مرارا إغلاقها لكن معارضة السلك الديبلوماسي كانت أقوى(7).

وبعد مرور عام على توقيع معاهدة الحماية شرعت سنة 1913م شركة “كومباني ماروكان” الاستعمارية في غرس العنب الخاص بإنتاج الخمور في ناحية القنيطرة .(8)
وبلغ إنتاج الخمر سنة 1922م أكثر من أربعين ألف هيكتوليتر، وفي سنة 1934م وصل إلى ستمائة ألف هيكتوليتر .
وتم تشييد أول مصنع للجعة (البيرة) عام 1921م وكان يستهلك يوميا 28 ألف قنطار من الشعير. وكانت المصانع الفرنسية تستورد بدورها من المغرب كميات ضخمة من الشعير. وبلغت في يونيو 1924م مجموع الصادرات ثلاثة ملايين قنطار (10). وكان الفلاحون يستخدمون الشعير علفا للحيوانات ويستهلكون كذلك في سنوات الجفاف، وأصبحوا لا يجدونه في متناولهم نتيجة للارتفاع الصاروخي في ثمنه، وبلغ سنة 1920م بمراكش 25 فرنكا للقنطار و39 فرنكا بوجدة .(11)
وأصبح موضوع النبيذ سلاحا شهره المستعمرون والوطنيون كل طرف ضد الطرف الآخر، فالوطنيون يعلنون أن انتشار الخمور يهدد أخلاق الشعب ونظام المجتمع، والمعمرون يعلنون ابتهاجهم بانتشارها في أوساط المغاربة: “في آخر الشهر يتسابق الجنود إلى شراء “الشامبانيا” ويلتحقون بالنساء في الخيام، هناك الكل سكران، الجميع يغني، إحداهن تفجر نشوة الجميع برقصة البطن، الكل يشرب ويمرح، فالحرب غدا لكن هذا لا يهم..” .(12)
وعبر الرهبان المتعصبون عن عدائهم لمعتقدات “الآخر” بطريقة لا تعرف التسامح: “الخمر، هذا المشروب الرجولي البهيج، سيحل محل الشاي الأخضر بالنعناع، المشروب المخنث، وسيصبح مشروبا وطنيا للبربر حينما يتم تنصيرهم” .(13)
وبسبب مزاحمة الخمور الإسبانية والجزائرية المعروضة بثمن رخيص، لم يجد المعمرون مكانا لصرف بضاعتهم فاتجهوا نحو السوق المغربية، ووزعوا النبيذ في المدن وفي أحياء البغاء، وقدموه للمجندين المغاربة في الجيش الفرنسي، وعرضوه للبيع ما بين عشرة وعشرين فرنكا للهيكتوليتر الواحد أي بثمن لا يتعدى عشرين بالمائة من ثمن الإنتاج الأصلي(14) وانفجرت سنة 1935م “أزمة الخمور المغربية” وبادرت الحكومة الفرنسية إلى إرسال لجنة تحقيق إلى المغرب وقدمت مساعدة مالية للمعمرين المتضررين واتخذت الإدارة الفرنسية قرارا تسمح بموجبه للمغاربة المسلمين بشرب (البيرة)، ورحب المعمرون بالقرار وطالبوا بتعميمه على سكان البوادي وبرفع المنع عن كل أنواع الخمور، وادعوا أن ذلك سيحد من مقاومة الفلاحين للاستعمار لأن “الدين يسيطر على أدمغتهم التي لا بد أن تلين حينما تسقيها جرعة الخمر” .(15)
وقام الوطنيون بحملة دعائية واسعة ضد سياسة “التسكير” التي تنهجها السلطة الاستعمارية، ورفعوا برقيات الاستنكار إلى القصر الملكي، ودعوا إلى إغلاق الحانات الموجودة في الأحياء الإسلامية، وبمدينة سلا لجأ المتظاهرون إلى العنف وهاجموا محلات بيع الخمر وكسروا مئات الزجاجات، وألقت الشرطة القبض على العشرات من المحتجين. وصدر الحكم بسنة سجنا على متزعمي الحركة الاحتجاجية محمد حصار وأحمد معنينو(16).
وجعلت كتلة العمل الوطني من محاربة الخمور جزءا من برنامجها السياسي، ونظمت حملة من الاحتجاج في مدن الرباط- سلا وفاس ومراكش ووجدة والدار البيضاء اضطرت معها الإدارة الفرنسية إلى التراجع عن التشجيع السافر لتعاطي الخمور، وفي يوم 5 مايو 1937م صدر قرار وزاري يمنع بيع النبيذ للمغاربة المسلمين.
إلا أن القرر بقي حبرا على ورق لأن السماح للنصارى واليهود باقتناء الخمور لا يمكن أن يمنع المسلم من الحصول عليها. والأهم من ذلك هو أن المستعمرين لم يفكروا لحظة واحدة في التخلي عن تجارة تدرُّ عليهم الأرباح، وليس من مصلحتهم ترك الشباب الذي يهدد وجودهم سليم العقل والجسد، ولذلك تمادوا في تشجيع الاستهلاك.
وشن المقاومون هجومات على الحانات في الأحياء الأوربية، وأحرقوا بعض الأماكن التي تعرضها للبيع وأطلقوا النار على باعتها وفي بعض الجهات خربوا المعاصر, ومن سخرية الزمان أن بعض الوطنيين الذين كانوا يتباكون على الدين والأخلاق سيطروا بعد الاستقلال، على معامل الخمور وأصبحوا من كبار المتاجرين فيها، ويمارسون سياسة التسكير وتخدير الشباب المطالب بحقه في العيش الكريم .(17)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)- بن زيدان، اتحاف م.س. 5/113.

[2] – Charmes Une ambassade du Maroc .R.D.M.L VIème année T.77 Paris1886 IN Mohemed Kenbib. Les Protèges, Contribution à L’histoire contemporaine du Maroc . imprimerie najah El jadida . casablanca 1996.P.219 .

[3] – ن. م.

[4] – F.O, 49,395. Tanger 17 Mai 1902 Voir Les protèges. Op.Cit .P.218.

[5] – الوثائق “مجموعات وثائقية دورية تصدرها مديرية الوثائق الملكية”، المجموعة 4.الرباط. 1977 ص:231.

[6] – Kenbib, les protèges. Op.Cit.P.219

[7] – الوثائق م.س. ج4. ص528

[8] – Jean le coz. Le rharb. Fellahs et colons . T II inframar. Rabat 1964.P565

[9] – le soir marocain. Casablanca 30-5-1935

[10] – Bulletin de la chamber de commerce et de l’industrie de Casablanca 18-7-1924. P.3

[11] – la vie agricole. Tome XXII No1. paris. 1923 P.222

[12]  Sur Les marches du Maroc insoumis.Op. Cit.P . 137

[13] – Revue ; Maroc catholique. 1923. d’après Julien. Le Maroc. Op. P.159. Rèf . 116

[14] – 6 Rharb. Fellahs  Op. Cit..P56

[15] – le soir marocain. Casablanca 30-Mai-1935

[16] – الوزاني، مذكرات، م.س.ج4، 1985 ص52.

[17] – بلغ استهلاك المغاربة من الخمور الحمراء والبيضاء عام 1985 أكثر من 500.000 هكتوليتر ومن البيرة مليون ومائتي ألف هكتوليتر مكتب التسويق والتصدير النشرة الإعلامية رقم19

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *