خلف قرار عدم مشاركة الوفد المغربي؛ الذي ترأسه وزير الشؤون الخارجية والتعاون؛ في المسيرة المنظمة بباريس تضامنا مع ضحايا الجريدة الساخرة، بسبب رفع رسوم كاريكاتورية مسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ صدى طيبا لدى كثير المثقفين والباحثين والكتاب والمتفاعلين على مستوى الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي.
وبالمقابل انهال جزائريون على وزير خارجيتهم رمضان لعمامرة بالنقد، وبعضهم تجاوز الأمر إلى السب، عقب مشاركته جنبا إلى جنب مع رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو في المسيرة، وأشادوا كثيرا بالموقف المغربي الذي اعتبروه مشرفا.
كما أشاد الكاتب الصحافي الفلسطيني عبد الباري عطوان بموقف المغرب الذي اعتبره شجاعا، وقال: «كم تمنينا لو أن الزعماء والمسؤولين العرب الذين شاركوا في المسيرة اتخذوا الموقف الشجاع نفسه. ولكن لم تتحقق أي من تمنياتنا السابقة، وربما اللاحقة، عندما يتعلق الأمر بالزعماء والمسؤولين العرب».
وأشادت العديد من القنوات العربية الحرة بالموقف؛ الذي نفس نوعا ما عن غضب الشارع العربي الذي يتابع فصول هذه المسرحية الفرنسية المملة والباردة برودة جبال الألب؛ والتي تشبه كثيرا أفلامها السينمائية ضعيفة الإخراج؛ التي تصيب متابعيها بالكمد و«الفقسة».
وإذا كانت هذه الجهات التي عرضت بعض أقوالها قد ثمنت موقف المغرب بعدم المشاركة في مسيرة رفعت فيها رسوم كاريكاتورية مسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهناك فئة أخرى تحظى بشعبية قليلة؛ لها ولاءات أخرى؛ وأجندات مغايرة؛ اختارت أن تصطف بكل قوة في صف فرنسا والمعسكر الغربي، ولم يرق لبعض المنتمين إليها على الإطلاق خطاب الرئيس الفرنسي «فرانسوا هولاند» الذي لم يربط مباشرة بين الإسلام والإرهاب، وانتقدوا خطابه؛ الذي لا يعدو كونه خطابا ديبلوماسيا تقتضيه سياسة المصالح؛ والخوف من ثورة ملايين المسلمين المضطهدين في ضواحي المدن ضده وضد كل خطاب عنصري يذكي الكراهية ويشجع على التطرف. أما حقيقة ما يخطط له دهاقنة السياسة في فرنسا وغيرها فستسفر عنه الأيام القليلة القادمة؛ وما على المستعجلين إلا الانتظار.
وقد وجه أحد العلمانيين المتطرفين العرب رسالة إلى الرئيس الفرنسي، تقمص فيها دور النبي، وكال فيها السب والشتم للإسلام ونبي الإسلام والمسلمين، ثم قال بعد ذلك مخاطبا هولاند: «إن خطابك الذي وجهته لمواطني بلدك بعد الأحداث الدامية في الأيام الثلاثة الأخيرة يثير القلق، فتصريحك بأن ما قام به الإرهابيون «لا علاقة له البتة بالإسلام» يدل على أنك جاهل، أو تم إعلامك بصورة خاطئة، أو أن مستشاريك لم يرشدوك، أو أنك تكذب على نفسك وعلى الآخرين خوفا من قول الحقيقة».
إنها قناعات يتبناها كثير من المنتمين إلى هذا الفصيل العنيف؛ وفي مثل هاته الأحداث والوقائع يتخلى العديد منهم عن التقية ولغة النفاق، ويسقطون كل الأقنعة ومن ثم يخرجون إلى الناس بوجوه مكشوفة.
فبالأمس وصف قزمٌ رسائل رسول صلى الله عليه وسلم بالإرهابية، ولعنت أخرى من قال إن المرأة ناقصة عقل ودين، وجاهرت ثالثة بأن القرآن لا يقنعها… واستهزأت مجلة بائدة كانت تدعى «نيشان» بالله تعالى ونبيه وأحكام شريعته والمتمسكين بها والمدافعين عنها.
واليوم خرج من كان يعمل بهذا المنبر البائد عبر جريدة إلكترونية لها نفس الخط التحريري لينتقد قرار المغرب عدم مشاركته في مسيرة باريس بسبب رفع رسوم كاريكاتورية مسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، معتبرا أن السبب الحقيقي هو أن وزير الخارجية صلاح الدين مزوار «ما رضاش باللي دارو ليه لفرانسيس فالمطار باش حيدو ليه الصباط والسمطة ثم خرجو ليه رسالة بعثها لوران فابيوس وزير الخارجية أخبره أنه تدخل لابنته سارة كي تشتغل هناك» وأن «المغرب وفرنسا يعيشان أزمة بسبب تداعيات قضية الحموشي، وكان يمكن لو توفر المغرب على وزير خارجية جيد أن تشكل هذه المناسبة حدثا لإعادة الدفء إلى هذه العلاقة».
ولا يخفى ما في هذا الخطاب من الكذب والتلبيس والنفاق أيضا، ذلك أن من يملك قرار المشاركة من عدمه للوفد المغربي في مسيرة باريس هو الملك فقط، ومن يعرف كيف تحبك خيوط اللعبة السياسية بين فرنسا وغيرها من الدول يدرك جيدا أن مشاركة المغرب في المسيرة من عدمها بالنسبة لباريس سيان، فما يهم في علاقات الدول اليوم هو المصالح والمصالح فقط؛ ولا مكان لديها للعواطف والمجاملات.
والمغرب له حساباته ومصالحه ويراعي توازنات داخل البلد وفي إفريقيا والوطن العربي؛ ومرجعية توحد الأمة وترص صفوفها، أما المنابر المنتقدة فلا يهمها الدين على الإطلاق، وإنما همها أن يستمر حبل الود مع «مَامَاهُم فرنسا»؛ وتعود المياه إلى مجاريها، كي لا يتطور الأمر وتتم فيما بعد متابعة كل الشبكات التي تخدم أجندة باريس وغيرها، وهي شبكات ممتدة في ربوع الوطن شرقا وغربا، سواء على المستوى الإعلامي أو الحقوقي أو السياسي.
أما فيما يخص إهانة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا السلوك المتطرف بالنسبة لذوي المرجعية العلمانية سلوك عادي وطبيعي يجب قبوله والتعايش معه لأنه يندرج في إطار حرية التعبير التي يجب ألا تقيد أو تحد بحدود.
نعم حرية التعبير لا حدَّ لها طبعا؛ سوى أن يمس جانب الصهاينة واليهود وأن يعتدى على السامية، فحينئذ تقف حرية التعبير وتكسر الأقلام، وتقطع الألسن، لأنها تسيء إلى من يملك القوة المالية والإعلامية والسياسية في العالم، وتمس جانب حكومة العالم الخفية التي لا تستطيع لا فرنسا ولا أوروبا مجتمعة، ولا حتى أمريكا أن تقف في وجهها وتقول لها: لا.
وخير مثال على ذلك محاكمة يوم الثلاثاء الماضي لرسام «شارلي إيبدو» العجوز «موريس سيني» ذي 80 عاما بتهمة معاداة السامية، وذلك بعد رسمه صورة لابن الرئيس السابق نيكولاي ساركوزي وهو يعتنق الديانة اليهودية، وقال عنه في مقال إنه يعتنق اليهودية من أجل المصلحة الشخصية والإثراء المالي. وقد اتخذت «شارلي» قرار طرد «سيني» مباشرة بعد ذلك؛ خشية من غضبة أصحاب القبضة القوية، الذين إن اختاروا المواجهة سيسحقون لا محالة حينها عظام هيئة تحرير الصحيفة التي تدعي الاستقلالية وعدم الانضباط بأي حدود في مجال حرية التعبير.