يعاني “الفكر الغربي” في جانبه الإمبريالي التوسعي منذ قرون عديدة من عقدة تفوق “تعاليم وعقائد الإسلام” وصمودها في وجه حملاته العسكرية والتنصيرية، تلك العقائد التي تحول دون الهيمنة الكلمة والأبدية على ثروات البلدان الإسلامية، وذلك لأن الإسلام يمنع من أن يعيش أتباعه تحت حكم “الكافر” ولا يرضى ولايته العامة ولا الخاصة عليهم.
فما يتم تدريسه من قرآن وسنة وفقه يرسخ لدى المسلمين عقيدة الولاء والبراء التي لا يبقى مع تغييبها معنى للإيمان أو الإسلام.
لهذا نجد الجنرال ليوطي عند معالجته لعملية الاستيطان الفرنسية بالمغرب ينبه ويؤكد على هذه الحقيقة في قوله: “لا أخاف على وضعيتنا إلا من أصحاب هذه الجلابيب والبرانس الذين يترددون على القرويين ليتحلق الطلبة حولهم، فيبثون فيهم من روحهم الإسلامية المتعصبة، قبل أن يلقنوهم دروسا في الشريعة الإسلامية” (قدور الورطاسي؛ ذكريات في الدراسة بفاس ص:50).
وبعد مرور أكثر من قرن على قولة ليوطي، نرى الموقف نفسه يتكرر من طرف القادة الفرنسيين وزعمائهم، من هذه الدروس التي لا زالت محط استنكار من طرف فرنسا رغم تلطيفها وانتقائية المشرفين عليها.
لكن هذه المرة الأمر لا يهم وضعية فرنسا في المغرب بل وضعية الدولة الفرنسية مع أبنائها الفرنسيين الذين ارتدوا عن النصرانية ودخلوا في الإسلام، بالإضافة إلى أبناء المهاجرين المسلمين الذين أصبح الجيل الثاني والثالث منهم يعرف عودة صارمة وقوية وواسعة إلى التشبث بالإسلام وتعاليمه، مما جعل كل سياسة الإدماج التي نهجتها الحكومات الفرنسية تبوء بالفشل.
فرنسا تتخوف من عملية كبرى لأسلمتها حيث لم تنفع كل سياساتها في محاصرة الإسلام في بلادها، والتي اضطرتها في بعض الأحيان لمخالفة مبادئ “حقوق الإنسان” -كما تروج لها- فتدخلت في الحريات الخاصة للأفراد والحيلولة دون انتشار الحجاب والنقاب، وعملت على مضايقة المسلمات في الوظائف والشارع، واضطرت للتمييز بين رعاياها على أساس ديني، لأنها لم تعد تستطيع تمتيع المسلمين بالحرية كما تنص عليه “إعلانات ثورتها لحقوق الإنسان” نظرا للارتفاع المخيف لمعدلات دخول الفرنسيين في الإسلام والذي يرى ساسة فرنسا أنه سيكون له تأثيره على مستوى اتخاذ القرارات السياسية في فرنسا، حيث يمكن أن تصبح فرنسا يوما لتجد نفسها تناقش داخل البرلمان وبكل “ديمقراطية” هل تتخلى عن علمانيتها أم لا، لتساير التطور الاجتماعي والديني للفرنسيين.
ومن التدابير التي قامت بها فرنسا للحد من انتشار الإسلام بشكل حر وتلقائي في بلادها، تلك الاتفاقية الثنائية التي أبرمتها مع المغرب بخصوص تكوين أئمة للمسلمين في فرنسا، مما أثار حفيظة حراس العلمانية الفرنسيين وجعلهم يعلنون رفضهم لتدخل الدولة الفرنسية في تكوين الأئمة لأن ذلك مخالف لقانون 1905 المتعلق بعلمانية الجمهورية الفرنسية.
“علمانية فرنسا” هذه هي الأساس الذي بنى عليه حكماء فرنسا الأربعين الذين أفتوا رئيس الحكومة بمخالفة وانتهاك الحريات الفردية للمسلمين الفرنسيين وخاصة النساء المحتجبات والمنتقبات لحماية الطابع العلماني للجمهورية.
ولمتابعة تنفيذ الاتفاقية المذكورة آنفا، زارت المغرب في أبريل المنصرم بعثة برلمانية فرنسية للوقوف على عملية تكوين الأئمة والمرشدين الذين سيكلفون بتأطير الرعايا الفرنسيين المسلمين وذلك للحفاظ على “علمانية فرنسا” وحمايتها من تمدد الإسلام فيها.
هذه البعثة أصدرت تقريرا وصفت فيه “تكوين الأئمة في المغرب بغير الملائم لفرنسا.
وحذر واضعو التقرير في الوقت نفسه من أن تكوين المغرب لأئمة فرنسا قد يجعل الإسلام فيها يعتمد على المغرب، ونصحوا الدولة الفرنسية بعدم الاستمرار في تكوين الأئمة، محذرين من أن ذلك سيحمل انعكاسات سلبية على الإسلام الفرنسي.
هذا “الإسلام الفرنسي” الذي يراد له وبه أن تنقطع صلات المسلمين في الغرب بالإسلام الموجود اليوم في الدول الإسلامية رغم ليونته وبعده عن التطبيق الصحيح للشريعة الإسلامية، كما كان معمولا بها قبل حملات الغرب التوسعية في بلاد المسلمين.
نخبة فرنسا لا تنسى دخول المجاهدين في القرن الثاني الهجري إلى فرنسا، لا تسقط من ذاكرتها معركة بلاط الشهداء، لهذا فهي لا تتقبل أن يتمدد الإسلام في بلادها ولو بشكله المعاصر حتى لا يشكل خطرا على أمن الدول الغربية، لعلمهم أن المسلم أخ المسلم ووليه مهما تباعدت المسافات الجغرافية ومهما تباينت الأصول العرقية.
لكن ما الذي ترفضه فرنسا على وجه الخصوص في عملية تكوين “أئمة المسلمين” الفرنسيين بالمغرب؟؟
يمكننا أن نطالع الجواب بالعودة إلى التقرير المذكور حيث نجد اللجنة البرلمانية الفرنسية التي وقفت على عملية التكوين وبرنامجه، تقترح “إعادة تكوين أئمة المغاربة في موضوع المحرقة، بعدما أشارت إلى أنهم يتبنون فقط الموقف الإسلامي من المحرقة، وتحذر اللجنة من أن الأئمة المكونين في الخارج يمكن أن يروجوا لأفكار تتناقض مع القوانين الفرنسية، خاصة فيما يتعلق بمجال الحريات، والعلاقات الجنسية المثلية”(*).
نتساءل ماذا يبقى من الإسلام إذا تماهى مع القوانين الفرنسية ونظرتها إلى الحريات الفردية كما هو متعارف عليها دوليا؟
وماذا يبقى من الإسلام إذا أزيلت الحدود بين الكفر والإيمان والطاعة والمعصية؟؟
وهل يمكن أن يقر أئمة الدين بالعلاقات الجنسية المثلية علما أن قصة قوم لوط وما لحقهم من عذاب سجله القرآن بالدقة والبيان الكافيين لجعله منبوذا، يستحوذ رفضه على موقف عامة المسلمين، فما بالك بنخبتهم من العلماء والأئمة.
هذا بالإضافة إلى أن القوانين الفرنسية تحرم بصرامة التشكيك في “المحرقة”، وتعاقب على ذلك بل تمنع حتى من البحث العلمي والتاريخي بشأنها، وتحاصر كل متشكك أو مشكك في وجودها، حتى إننا إن أردنا أن نستقصي الحقائق المطلقة في فرنسا لم نجدها تتعدى اثنتين، هما: الموت والمحرقة.
فلم يشفع للمغرب ولا لمؤسسة محمد السادس لتكوين الأئمة لدى الفرنسيين، أن القائمين على “ترشيد” الخطاب الديني في المغرب ابتعدوا عن كل ما يشين اليهود، وانتقوا من الإسلام كل ما يخدم المفهوم الغربي للتعايش وما يتوافق مع مستلزمات الحداثة الغربية، واعتنوا باختيار النصوص والموضوعات التي لا تثير حفيظة زعماء وساسة الغرب، ومع ذلك رفضت جهودهم، إذ ما يزال مطلوبا منهم المزيد من التماهي مع التصور الفرنسي والغربي للكون والحياة والإنسان، والذي فَرض على قساوسة ورهبان الكنائس أن يخضعوا له، حيث أصبحت جل الكنائس تبارك زواج المثليين اللواطيين والسحاقيات وتقر لهم بحقهم في ممارسة ما كانت تعتبره موبقة وخطيئة.
إن انخراط حكومات البلدان الإسلامية في الحرب على الإرهاب والتطرف بالمفهوم المفروض من الغرب، وعدم الإبقاء على مسافة فاصلة على مستوى الأقوال والأفعال والمواقف السياسية، تستغله الدول الغربية في ابتزاز ساسة الدول الإسلامية، وتضغط به لتدفعهم بشكل ممنهج إلى تحريف مفاهيم الإسلام وأسسه الدينية والعقدية، الأمر الذي يؤذن بمستقبل مضطرب قد يصل إلى مستوى الحرب مع شعوبها في المستقبل.
فعلى حكومات الدول الإسلامية ألا تبقى حبيسة الصورة التي يعولمها الغرب على الإسلام والمسلمين، وأن لا تنجر معه في حربه على الإسلام، فهو لم يوقف هذه الحرب يوما، خصوص ضد الفقهاء والدعاة والعلماء، بحيث لن يرض عنا حتى يتبعوا ملتهم كما أخبر الله سبحانه في القرآن.
وهذا ليس اجترار لمعلوم من النصوص القرآنية التي يلتف على معناها العلمانيون، ويجعلونها محكومة بسياق تاريخي زمنيا ومكانيا، بل هو صريح قادة الغرب ونخبتهم، يقول “بول مارتي” وهو أبرزُ مؤرخي الاحتلال الفرنسي في كتابه “مغرب الغد” (ص:241): “كل تدخل من قبل الفقيه وكل ظاهرة إسلامية يجب منعها بصرامة تامة”.
فكيف يمكن أن نستمر في التعاون السياسي والثقافي والديني والاستخباراتي في قضايا تهم الإسلام والمسلمين مع دول موقفها من علمائنا ودعاتنا وإسلامنا عدائي تستحكم فيه مشاعر الحقد والكراهية والبغض؟
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
—————-
(*) جريدة المساء عدد الإثنين 11 يوليوز 2016.