بادئ ذي بدء نقول: ليس الغرض من الحديث عن أهمية إمساك اللسان زمن الفتن خاصة تكميم الأفواه عن قول الحق في محله وبشرطه، وإنما القصد أن توزن المسألة المتكلم فيها بميزان النقل الصريح، والعقل الصحيح، وضابط ذلك كما قرره الإمام الشاطبي رحمه الله بقوله: “أنك تعرض مسألتك على الشريعة فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية” الموافقات4/191.
جرم اللسان
فأقول وبالله التوفيق ومنه العون والتحقيق: اللسان من أخطر ما خلق الله جل وعلا في جسم الإنسان، ولذا كان العلماء قديما يقولون عن اللسان: جِرمه صغير، وجُرمه كبير.
فأيسر حركات الجوارح حركة اللسان، وهي أضرها على العبد.
وعليه فالواجب على العبد أن يكف لسانه، وأن يحفظ منطقه، من الخوض في كل باطل وما لا يصلح قوله لمفسدته المتحققة في الحال أو المآل في جميع الأوقات وعند مختلف الأحوال.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: “إذا أراد -العبد- الكلام فعليه أن يفكر قبل كلامه، فإن ظهرت المصلحة تكلم، وإن شك لم يتكلم حتى تظهر” الأذكار للإمام النووي.
وقال الإمام النووي رحمه الله: “اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام، إلا كلاما تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه، لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام، أو مكروه، بل هذا كثير غالب في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء” الأذكار 516.
ولذا كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله يقول: “إذا اغتممت بالسكوت، فتذكر سلامتك من زلل اللسان” حلية الأولياء.
وقال أبو بكر بن محمد بن القاسم: كان شيخنا أبو إسحاق الشيرازي إذا أخطأ أحد بين يديه، قال: “أي سكتة فاتتك؟ ” السير.
حفظ اللسان زمن الفتن
يتأكد حفظ اللسان وصون المنطق زمن الفتن وعند ظهور المحن والإحن ففيها يكثر القال والقيل، وكل كلام عليل، وتكثر الأباطيل، ويقل الكلام بالعلم والتأصيل، وقد يحسب المرء أنه إذا كفّ يده فقد اعتزل الفتن المضلة، ولا يدري أنه لا ينجو منها حتى يكف لسانه أيضا، وكم من خائض في المدلهمات متلوث بها لسانه، وهو يظن أنه ناج منها، مع أنه من أنشط الساعين فيها، المضرمين نارها، ومن ثم قال وهيب بن الورد رحمه الله: “وجدت العزلة في اللسان” الصمت لابن أبي الدنيا.
فعن يزيد بن أبي حبيب، قال: “إن المتكلم لينتظر الفتنة، وإن المنصت لينتظر الرحمة” جامع بيان العلم وفضله.
وقال ابن بطة رحمه الله: “إن هذه الفتن والأهواء قد فضحت خلقا كثيرا، وكشفت أستارهم عن أصول قبيحة، فإن أصون الناس لنفسه أحفظهم للسانه، وأشغلهم بدينه، وأتركهم لما لا يعنيه” الإبانة الكبرى.
قال عليه الصلاة والسلام: “إذا رأيت الناس مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم وكانوا هكذا -وشبك بين أنامله- فالزَم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بخاصة أمر نفسك، ودع عنك أمر العامة” اهـ، صحيح الجامع (563).
قال صاحب “عون المعبود” (11/334): “(وأملك) أمر من الإملاك بمعنى الشدة والإحكام، أي أمسك (عليك لسانك) ولا تتكلم في أحوال الناس كيلا يؤذوك” اهـ.
وقال المناوي رحمه الله: “(وأملك) بقطع الهمزة وكسر اللام (عليك لسانك) أي احفظه وصنه، ولا تخيِّره إلا فيما لك لا عليك، وامسكه عما لا يعنيك” اهـ، فيض القدير (1/353).
فهذا الحديث يبين ضرورة حفظ اللسان وكفه -عند تغير أحوال الناس خاصةـ عن كل ما لا يعني المرء وما لم يتحققه ويتبين منه، فضلا عن إمساكه عن كل باطل، ففي ذلك السلامة والنجاة كما بينه نبينا عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: “قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك” اهـ، صحيح الترغيب والترهيب.
قال المباركفوري رحمه الله: “قوله (ما النجاة) أي ما سببها (قال: أمسك عليك لسانك) أمر من الملك..
قال الطيبي أي: احفظه عما لا خير فيه.
وقال صاحب “النهاية” أي: لا تخيِّره إلا بما يكون لك لا عليك” اهـ (تحفة الأحوذي 7/74).
فتكلم بعلم عبد الله أو اسكت بحلم، كما قال علي بن عبد الرحمن بن هذيل: “ومن الواجب على من عري من الأدب، وتخلى عن المعرفة والفهم، ولم يتحل بالعلم، أن يلزم الصمت، ويأخذ نفسه به، فإن ذلك حظ كبير من الأدب، ونصيب وافر من التوفيق، لأنه يأمن من الغلط، ويعتصم من دواعي السقط، فالأدب رأس كل حكمة، والصمت جماع الحكم” عين الأدب والسياسة.
وليعلم أنه لا ينحصر شؤم إطلاق اللسان في زمن الفتن في مجالس السوء التي يسودها الجدل والمراء والغيبة والنميمة، ولكنه يتعداها إلى آثار خطيرة في واقع الأمة، فالشر مبدؤه شرارة، “ومعظم النار من مستصغر الشرر”.
وكثيرة هي المحن والإحن تبذر بذرتها في مجالس السوء تلك، ولا يتوقع أصحابها أن تبلغ ما بلغت، ثم تلقح بالنجوى، وتنتج بالشكوى، وإذا بها تشتعل وتضطرم رويدا رويدا حتى يستعصي إطفاؤها على الذين أوقدوا شرارتها وكما قيل: “رب قول يسيل منه دم” المنهج المسلوك في سياسة الملوك.
قال ابن المقفع رحمه الله: “اعلم أن لسانك أداة مصلتة، يتغالب عليه عقلك، وغضبك، وهواك، فكل غالب عليه مستمتع به، وصارفه في محبته.
فإذا غلب عليه عقلك فهو لك، وإن غلب عليه شيء من أشباه ما سميت لك فهو لعدوك.
فإن استطعت أن تحتفظ به وتصونه فلا يكون إلا لك، ولا يستولي عليه أو يشاركك فيه عدوك فافعل” الأدب الصغير.