نتفهم بكل تأكيد تأخر الرد على ما أكدته صحيفة فورين بوليسي الأمريكية والمواقع العراقية “جريدة المواطن العراقي، وموقع موسوعة النهرين، وشبكة السماوة العالمية، وموقع السيمر”، التي نقلت عنها فضائية العالم الإيرانية في موقعها، من أن الإدارة الأميركية “استنجدت” بالمرجع الشيعي الإيراني علي السيستاني، من خلال رسالة بعث بها “الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى المرجع الديني العراقي السيستاني يلتمس فيها بالتدخل لحل أزمة تشكيل الحكومة ودعوة الكتل السياسية بشكل مباشر إلى إنهاء الفوضى الراهنة” (لا أدري بالمناسبة لماذا سمته العالم مرجعاً عراقياً مع أنه بنفسه قال يوماً لبريمر أنت أمريكي وأنا إيراني فدع العراقيين يقررون مصيرهم بأنفسهم!!).
مضى أسبوعان ولم يرد المرجع؛ فهو لا يظهر علناً لأنه “مستور” مثلما تحثه ديانته على الاختفاء عن الأنظار، ويقوم وكلائه والناطقين باسمه بالرد نيابة عنه، ولأننا نعلم أن وكيل المرجع الديني مناف الناجي مشغول بما يعف اللسان عن ذكره؛ والناطق الرسمي باسمه حامد الخفاف فضل التقية على المصارحة عندما رفض التعليق على الخبر، أما ممثله في كربلاء أحمد الصافي فقد اكتفى بدعوة “القادة والكتل السياسية إلى التعجيل في تشكيل الحكومة من أجل التخفيف من معاناة المواطنين” بعد 8 أيام من تسريب الخبر.
علينا أن نقدر حرص السيستاني على سرية الرسالة التي لم يتم نفي إرسالها بشكل صريح، لأنه يفضل تلك الطريقة كما يحكي بول بريمر أول حاكم للاحتلال الأمريكي بالعراق في مذكراته: “ذات يوم أرسل لي السيستاني يقول: إن عدم لقائه بنا ليس ناتجاً من عداء للتحالف، وإنما لأنه يعتقد بأنه بهذا الموقف يمكن أن يكون أكثر فائدة لتحقيق أهدافنا المشتركة، وأنه سيفقد بعض مصداقيته لدى أنصاره لو تعاون بشكل علني مع مسؤولي التحالف” [مذكرات الحاكم المدني للعراق بول بريمر بعنوان “عام قضيته في العراق”]؛ فهو دوماً حريص على سرية العلاقة التي استمرت وحظيت بإشادة من مسؤولين أمريكيين منهم بريمر نفسه الذي قال في مذكراته “لولا السيستاني لما نجحت العملية السياسية في العراق”.
وعلينا أن نتفهم انشغال وكيله وتجنبه الوقوع في أوحال السياسة!! وحرص الناطقين على الدوران بنا في ألغازهم الكلامية، والنأي بأنفسهم عن التدخل في “العملية السياسية” بشكل صريح؛ وهم الذين شرعنوها بقول ممثل المرجعية أحمد الصافي قبل خمسة أعوام “المشاركة في الانتخابات لها حرمة شرعية؛ لأن المخالف يدخل جهنم”، وكل ذلك ليس جديداً على أي متابع للحالة العراقية وامتداداتها الإيرانية، لكن الأهم من كل تلك المراوغات هي الجهة الأخرى الأمريكية التي بدت حريصة كل الحرص على تقليد الإيرانيين في “التقية” فلم تؤكد ولم تنفِ، وأوحت بشكل واضح وجريء هذه المرة إيمانها الكامل بـ”ولاية الفقيه” في العراق، مثلما قبلتها قبل ثلاثة عقود في إيران.
إن الولايات المتحدة بكل “ليبراليتها” و”علمانيتها” أضحت الآن مؤمنة بـ”خلط الدين بالسياسة”، والتسليم بدور “رجل دين” لا يتمتع بأي صفة سياسية أو رسمية بالبلاد في سياسة دولة مجاورة لبلاده وهي العراق. بل نزيد أنها قد عملت بقصد أو بدون قصد على نقل موقع “رجل دين” من التأثير المحدود سياسياً (إبان حكم صدام حسين) إلى “الفقيه الولي” الآمر الناهي سياسياً، والقادر على تحريك البيادق في العراق، وإلى وضعه فوق أجهزة الدولة التي بات عليها أن “تحظى أولاً ببركته” حتى تحل عليها “نعمة الاستمرار والاستقرار” في النظام!!
لقد كان الخبر مبهجاً لبعض أتباع المرجعية في العراق، وغدوا يردون على كل مشكك في “وطنية” الرجل بأن هذا يعد مصدر عز للإسلام والمسلمين!! ويعبر عن قيمة المؤسسة الدينية لدى العالم، وهو مجرد استقبال رسالة “سرية” لا يضاهي هرولة آخرين “سنة” إلى البيت الأبيض في العلن، ولهم ما يعتقدون إن كانوا يرضون بمرجعية “مناف” وإخوانه، ولا دخل لنا فيما يتصورون، ولا دخل لي بهم، ولا بأولئك المؤمنين بضرورة إجراء عملية فصل سيامي بين الدين والسياسة في بلداننا الإسلامية، وإنما بكثير من شعوبنا التي لم تزل تسمع عن “سيناريوهات ضرب إيران” التي يخدر بها الإعلام الغربي سياسيينا ريثما تفاجأ العالم بالتجربة النووية الإيرانية الأولى.
لم يعد الأمر سراً، ولم نعد بحاجة إلى البحث والتنقيب في أوراق الثورة الإيرانية السرية وما تجود به وثائق الاستخبارات الغربية بعدما تمر عليها سنوات حظر النشر؛ فمن فاتته بدايات الثورة الإيرانية فليتابع نشرات الأخبار الآن ليدرك كيف صنعت “ولاية الفقيه” أول مرة..
الرسالة السرية المسربة (ما لم تنفَ صحة إرسالها) هي “قرينة” على حد تعبير زعيم “حزب الله” تستحضر كل الرسائل السرية المرسلة إلى آخرين منذ أن أغمضت كل الاستخبارات الأوروبية والأمريكية أعينها عن نشاطات المعارضة الإيرانية التي قادت التغيير في إيران عام 1979 حتى شكلت كرة الثلج في أوروبا ثورة عارمة مأذونة أوروبياً وغربياً، وتبرهن على العلاقة الوثيقة (إلى حد العشم) التي تربط زعامات إيران في العراق بالبيت الأبيض، وإلا فلو قال محازبو الحوزة إنها لا تعدو أن تكون رسالة “استجداء” من طرف واحد؛ فمن حقنا أن نسألهم:
لماذا بدأت واشنطن التخلي عن مرشحها لرئاسة وزراء العراق لصالح الإيرانيين؟
وما الذي عرضه “حسين” أوباما في المقابل على “علي” السيستاني؟!