أيها الأصدقاء تعالوا.. نختلف! (ج1) بقلم: لطيفة أسير

المتأمّل في واقع الأمة الإسلامية اليوم، لا يخفى عليه حجم الخرق الذي يتسع مداه سنة تلو أخرى بين أبناء هذه الأمة رغم أنّ ربهم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد.. عوامل شتى تدعو للوحدة، لكننا نأبى إلا أن نجعلها أسبابا للاختلاف لا الائتلاف.

من هذا المنطلق، ومن هذه الحرقة على الأمة أتى هذا المولود للدكتور أحمد البراء الأميري، والذي ارتأى أن يعنونه بـ(أيها الأصدقاء تعالوا.. نختلف)، عنوان مثير يجذب قارئه، ويثير فضوله لقراءة سطوره، وإن كان موضوعه ليس جديدا، لكن أسلوب صياغته فيه جاذبية، توحي أن الاختلاف لا يجب أن يلغي أواصر الصحبة والصداقة، وإنما على المرء أن يتعلم فقه الائتلاف حفاظا على الروابط الحميمية.

وأصل هذه (النظرات) أحاديث ألقيت من إذاعة القرآن في المملكة العربية السعودية، شاء المؤلف أن يُلبسها هذه الحلة الجميلة بعد تعديل طفيف جدا عليها. وعن سبب اختياره لهذا الموضوع يقول:

(واختيار إطلاق فقه الائتلاف على هذه النظرات بدلا من فقه الاختلاف، هو أن الاسم الأول يتضح فيه الهدف الأسمى الذي ترمي إليه، وهو تقريب الفجوة بين العقول والأفكار، وردمها تماما بين القلوب والمشاعر).

ويقول في موضع آخر في ثنايا الكتاب: (هدف هذا الكتاب أن يقترب في كل مقالة من مقالاته خطوة في طريق الائتلاف الواسع الذي يضم الكثرة الكاثرة، تتوحد فيه القلوب والجهود، وإن اختلفت الاجتهادات والآراء، لأن اختلافها لا يفسد المودة والمحبة عند أولي النهى).

فدافع تأليف الكتاب بمقالاته الثلاث والأربعين، نية مباركة من مسلم غيور على حال أمته، يؤرقه تشرذمها وتنازعها وسوء تدبيرها لخلافاتها، في الوقت الذي يرصّ عدوها صفوفه، ويجمع شتاته، ويضرب بيد من حديد، رغم التباين الشديد في تركيبة عناصره. ولهذا حاول المؤلف أن يؤكد في مقدمة الكتاب على أن الأساس في الائتلاف ليس توحد العناصر جملة واحدة، ولا سبب الاختلاف تباعد العناصر جملة واحدة، وإنما الأساس حسن تدبير الاختلاف ليحقق ائتلافا لا نزاعا. يقول جيري ويزنيسكي في كتابه (تسوية الخلافات في العمل): (نحن في حاجة إلى التركيز على أفضل طريقة للتعامل مع الخلاف، بدلا من الادعاء بأنه سيزول من تلقاء نفسه، وذلك لأن الخلاف أمر طبيعي، وهو عنصر فعال في الاتصال بين الأفراد، وإذا تمّ التعامل مع الخلاف بشكل جيد، فسوف تتمّ تسويته في الغالب، ويحقق نتائج جيدة، وحلولا مبتكرة).

وقد ساق المؤلف في عدة مقالات ما يؤكد أن الخلاف سنة طبيعية، فأشار في المقالة الأولى إلى موقف السلف من الاختلاف ووقوعه حقيقة منذ عهد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.

وزاد في تفصيل الأمر في المقالة الحادية والعشرين حيث تحدث عن كتاب للدكتور علي محمد العمري بعنوان (الخلاف بين أبي حنيفة وأصحابه)، ركز فيه على ذكر علل اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم في بعض الأحكام استنادا لما ذكره العلامة الدهلوي في كتابيه “الإنصاف في بيان أسباب الخلاف” و”حجة الله البالغة” وقد لخصها في عشرة أسباب انتهى بعدها للقول (أن اتفاق الآراء في المسائل الاجتهادية لم يقع في التاريخ، وأن العاقل الحكيم لا يبادر إلى تخطئة قول حتى يقف على دليل قائله، وأنّ العاقل الحليم أيضا إذا اعتقد بخطأ قول ما عليه أن يحترم صاحبه، ولا يهاجم شخصه، بل ينقد القول ويبين رأيه الصريح دون تجريح).

وزكّى هذا الطرح مجددا في المقالة الرابعة والعشرين حين تحدث عن كتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) للإمام القاضي أبي الوليد بن رشد القرطبي، والذي يؤكد أن أكثر المسائل الفقهية لم تجتمع فيها أقوال الفقهاء على حكم واحد، بل كان بينهم اختلاف ولكل حجته ودليله الذي ترجّح لديه، لذا فالواجب ترك الجدال وهدر الوقت في القيل والقال، واستثمار الجهد فيما هو نافع عاجلا وآجلا.

لكن المؤسف أن الخلاف بين المسلمين في المسائل الاجتهادية، لم يعد ظاهرة فكرية صحية، بل غدا أداة للاقتتال وإثارة الفتن، ووسيلة لشق الصفّ الداخلي، والتّقوّي بالأعداء على صاحب الرأي المخالف، كما أشار الكاتب في مقالته (وجوب الائتلاف).

تمنيت لو كان الكتاب أكثر تنظيما وتمحيصا، بحيث تُضم بعض المقالات لبعضها، أو يقدم بعضها ويؤخر الآخر، لكان سِفرا أجمل وأروع، لكن يشفع للكاتب حسن نيته، وطبيعة المادة التي حوتها صفحات الكتاب وهي أحاديث إذاعية وليست بحثا أكاديميا في الموضوع. لكن القارئ لن يعدم الفائدة وهو يقرأ صفحاته 245، ولن يخرج صفر اليدين مما به من معلومات وإرشادات سواء لبعض الكتب، أو بعض الاستدلالات المهمة، لذا فدفتر تسجيل المعلومات لابد أن يكون رفيق قراءته.

وكعادتي في طبيعة هذه المقالات، فهدفي هو تلخيص محتويات الكتاب في قالب يقرّب المعلومة كاملة للقارئ، وفي نفس الآن التحفيز على قراءة الكتاب.

مُجمل مقالات الكتاب الكاتب تركز على سُبل تأسيس قواعد للائتلاف ونبذ الاختلاف بين المسلمين، خصوصا فيما يتعلق بالمسائل الاجتهادية والفكرية، ارتأيت تنظيمها في محاور تسهيلا لتتبعها:

1- التجرد من الهوى والبعد عن التحيّز، إذ أن (معرفة خطر الأهواء نافع في الاحتياط منها، وهي خطوة أساسية في طريق التفكير السديد الرشيد).

2- التمييز بين التقدير والتقديس، فالتقدير هو الاحترام اللازم، والتقديس مبالغة في الاحترام وخروج عن الحدود الشرعية، وقد أشار الكاتب إلى تقديس بعض الجماعات اليوم لعلمائها، وذمّ ذلك مستدلا بموقفين من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم حين راجعه الصحابة في بعض آرائه فنزل الرسول الكريم عند قولهم لمّا تبيّن له صوابه، وفي هذا دلالة على أن (الاحترام والتقدير لا يمنعان من السؤال والاستفهام والتعبير عن الرأي، والمخالفة في الرأي إن اقتضى الأمر ذلك).

3- الاطلاع على حجج المخالفين لتحقيق الائتلاف بين القلوب، وتقريب الآراء، وقد أدرج الكاتب كمثال على ذلك الخلاف الفقهي في مسألتي زكاة الفطر، والطهارة ولمس المصحف. قال الشاطبي في الموافقات: (إنّ تعويد طالب العلم ألا يطّلع إلا على مذهب واحد، ربما يكسبه نفورًا، أو إنكارًا لكل مذهب غير مذهبه، مادام لم يطلع على أدلته، فيورثه ذلك حزازة في الاعتقاد في فضل أئمة أجمع الناس على فضلهم، وثقتهم في الدين، وخبرتهم بمقاصد الشارع، وفهم أغراضه).

4- تجنب الكيل بمكيالين، والتعصب المذهبي، والاعتزاز بالرأي الواحد وإقصاء الرأي الآخر، وكلها من أخطاء التفكير التي يؤدي اجتنابها إلى ائتلاف القلوب وتقارب العقول.

وقد سلط الكاتب الضوء على هذا الجانب في عدة مقالات منها المقالة السابعة (الكيل بمكيالين) والمقالة التاسعة عشر (الخلاف بين المذاهب والتعصب المذهبي) والمقالة عشرون (ما أريكم إلا ما أرى).

يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *