غائية الحضارة في سلم الوحي ابراهيم السكران

سيظل ينبوع الانحراف الثقافي بكل اختصار: الانبهار بالمظاهر المادية من عمران ومدنية وحضارة دنيوية، والزهد في مضامين الوحي من العلوم الإلهية وحقائق الإيمان والغيبيات ومعاملة الله سبحانه تعالى

بكل وضوح وصراحة، وبلا مجاملة ولا مداورة ولا التفاف.. “الحضارة” بالمعنى الشائع -والتي هي العلوم المدنية الدنيوية لخلق الرفاه البشري- هي قيمة ذات مرتبة تبعية في الوحي الإلهي، وليست الغاية ولا الأولوية الرئيسية أو القضية المركزية كما نحب أن نتظاهر بذلك، أعلم أن هذا الأمر يزعج الكثيرين، بل ويؤلمهم، لأنهم يريدون بالكثير من حسن النية كسب تعاطف النخب المثقفة تجاه الإسلام، لكن هذه هي الحقيقة.
إننا يجب أن نكسب انتماء الناس إلى الإسلام والقرآن والنبي محمد كما هم في ذاتهم، أي كما كانوا فعلاً لا كما جعلناهم نحن عبر عمليات إعادة التصنيع والتشكيل طبقاً لميول المستهلك، الإسلام في نسخته الحقيقية الصادقة لا الإسلام الذي يميل إلى سماعه المخاطبون، النبي محمد كما عاش فعلاً بين حرَّات طابة لا صورة النبي المصممة للذوق الفرانكفوني.
والشواهد وأوجه الدلالة التي تبرهن أن المدنية الدنيوية ذات قيمة ثانوية باعتبارها مجرد وسيلة لنصرة الإسلام وتحقيق شرائعه تابعة لهذا الهدف، وليست غاية في حد ذاتها أو مجالاً لمنافسة الشعوب والأمم في امتلاك الدنيا، هي شواهد تفوق الحصر.
لقد جاء القرآن بشكل واضح بتأسيس “مركزية الآخرة” في مقابل “مركزية الدنيا”، هذا الأمر واضح في القرآن بشكل يخجلنا أن نورد شواهده، ولكننا كثيراً ما نحب أن نتجاهل ذلك، ونتعسف في قلب هرم الاهتمامات القرآني.
تدفعنا كثيراً محاولة إرضاء الآخرين إلى عرض القرآن باعتبار أن رسالته الأساسية “العمران المادي”! والحقيقة أننا نكذب على القرآن، ونضعه في موقع لم يأت ليضع نفسه فيه.
لا.. أبداً.. لم يأت القرآن بألوية العمارة المادية، بل جاء لعكس ذلك تماماً، جاء ليؤسس مركزية الآخرة في مقابل مركزية الدنيا، جاء القرآن ليحول الدنيا من “غاية” إلى مجرد “وسيلة”.
بل إن بيان القرآن لخطر الدنيا في إضلال الناس عن الله أكثر من بيانه لوجوب عمرانها أصلاً، فالدنيا في التصور القرآني مجرد “وسيلة” خطرة يجب التعامل معها بحذر خوفاً من أن تجرفنا عن الحياة المستقبلية اللانهائية في الدار الآخرة.
إن أبرز مبادئ العقلانية تقديم المصلحة المؤبدة على المصلحة المؤقتة، ولذلك جاء القرآن بالتأكيد على هذه الحقيقة العقلية وتعزيز مقتضاها فقدم سعادة الآخرة الباقية المؤبدة على متعة الدنيا الفانية المؤقتة.
كثير من النخب المثقفة يشعر بالتبرم حين يسمع كلام القرآن في ذم الدنيا، لأنهم يخشون أن ينصرف الناس عن هذه الوسيلة فنبقى مجتمعاً ضعيفاً، وهذا نوع من الاستدراك على الله!
ولذلك كان وسيظل ينبوع الانحراف الثقافي بكل اختصار: الانبهار بالمظاهر المادية من عمران ومدنية وحضارة دنيوية، والزهد في مضامين الوحي من العلوم الإلهية وحقائق الإيمان والغيبيات ومعاملة الله سبحانه تعالى.
كثيراً ما يشير القرآن إلى أن كل ما على هذه البسيطة من موارد وإمكانيات ليس المراد بها رفاه الجنس الإنساني، وإنما المراد بها ابتلاء الناس وامتحانهم هل يؤمنون ويقبلون على الله أم يعرضون عنه؟ كما قال تعالى:
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف:7].
وكشف تعالى عن وظيفة المعايش المدنية والتمكين السياسي فقال سبحانه:
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف:10]
بل ويشير تعالى إلى عظمة هذا التمكين المدني وعمقه فيقول تعالى:
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلاأَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف:26]

فانظر كيف عرض الله سبحانه وتعالى “المعايش المدنية” باعتبارها “نعمة” من الله لابتلاء الناس، لا أنها هي المطلب الشرعي الرئيس، ثم يؤكد تعالى على الغاية الشعائرية والحسبوية من نعمة التمكين السياسي في موضع آخر فيقول سبحانه:
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} [الحج:41]
وحين يعرض الله الصورة الراقية للمؤمن يؤكد أنه ذلك الرجل الذي لا يشغله النشاط الاقتصادي عن الغاية الحقيقية العبادية، وأن الدنيا في يده لاتعظيم لها في قلبه، لأن نظره الحقيقي مربوط بلحظة لقاء الله، فيقول تعالى:
{رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُوَالأَبْصَارُ} [النور:37]
وينبه الله تعالى في مواضع كثيرة من الوحي على أن المنزلة والمكانة الحقيقية عند الله ليست بالمظاهر المدنية المادية، ولا بالإمكانيات الاقتصادية والديموغرافية، فقال سبحانه:
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37]
وما ذلك كله إلا لتفاهة الممتلكات المادية في “ميزان الله” فهل يا ترى ستكون موازيننا تابعة لميزانه سبحانه وتعالى، أم ستكون لنا موازيننا الخاصة؟!
وقد كشف الله في مواضع كثيرة تفاهة هذه المظاهر المادية من وجوه متعددة، فلاتخلوا طائفة من آيات القرآن إلا وفيها التنبيه على حقارة الدنيا وأنها مجرد لعب، ولهو، ومتاع، وزينة، ونحوها من الألقاب، والجامع بين هذه الأوصاف كلها هو كونها “لذة مؤقتة”.
ويكشف الوحي في مواضع متعددة عن قانون الانحراف في التاريخ، حيث يكاد القرآن أن يربط كل مظهر من مظاهر الخلل العقدي والأخلاقي به، ألا وهو “الانبهار بالمظاهر المادية” وتعظيمها وامتلاء القلب بالتعلق بها، وتأمل في واقع الناس اليوم وستجد دقة هذا الناموس القرآني، حيث تكاد أن تجد كل “ضلال فكري” أو “انحراف سلوكي” إنما منشؤه تعظيم الدنيا، كما في قوله تعالى:
{ كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ، وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة:20-21]

ولذلك كثرت موازنة القرآن بين المنجز الدنيوي والمنجز الأخروي، كقوله تعالى:
{أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [القصص:61]
ويبين سبحانه أن هناك طريقين: طريق الإنجاز الدنيوي وطريق الإنجاز الأخروي، كما قال تعالى:
{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا} [الشورى:20]
وفي ثلاث آيات عجيبة من سورة الاسراء شرح سبحانه وتعالى معالم هذين الطريقين، فقال عن طريق الانجاز الدنيوي:
{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}
ثم في الآية التي تليها وضح طريق الانجاز الأخروي فقال سبحانه:
{وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}
ثم في الآية الثالثة عقب على المشهدين كليهما بهذا التعقيب البليغ:
{كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}
وفي لغة حاصرة يبين تعالى أن كل ما في هذه الحياة الدنيا إنما هو متاع وأن الموارد الحقيقية غير الناضبة إنما هي في الآخرة، كما قال تعالى:
{فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الشورى:36]
ويقول تعالى أيضاً:
{وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص:60]
وفي موضع آخر يصف الدنيا بأنها لعب ولهو في مقابل الحياة المستقبلية الحقيقية فيقول تعالى:
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [الأنعام:32]
وفي مشهد انتقاص من تلك الشخصيات التي امتلأت قلوبها فرحاً ولهجاً بالمنجزات والممتلكات المادية يقول تعالى:
{وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} [الرعد:26]
ويشير تعالى إلى أن كل هذه الممتلكات المادية سيودعها أصحابها مع أول خطوة في طريق الحياة المستقبلية فيقول تعالى:
{وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94]
ونظائر هذه المعاني في كلام الله وكلام رسوله لايكاد يحصيها العاد، ولا تخفى على مسلم ولله الحمد، وإنما أردنا الإشارة إلى شواهد من معانيها الكلية والقدر المشترك الذي تواردت عليه، أما أعيان أدلتها فلا سبيل إلى استيعابها أصلاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *