إذا مات القلب ماتت معه الجوارح والنفس والجسد، وإن بدا الشخص يمشي ويتكلم ويأكل ويشرب في الظاهر فإن موت قلبه بالمعنى موت لكل طبائع الخير فيه، وخمود لكل نوازع الفطرة التي جُبل عليها، فلا عقل يتفكر في ملكوت الله، ولا لسان يتحرك بذكر الخالق، “أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ” محمد: 46. ولا جوارح تسعى في طاعة الرحمان وقضاء حوائج العباد، أصمَّ الله تعالى سمعه وأعمى بصيرته، “وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ” الأعراف: 174.
قلب انتزعت منه آثار الرحمة والبر، وافتقد لجميع أسباب الصلاح، فلا منبت للخير فيه، أرض جرداء قاحلة، صارت صخرا صلدا لا خير يرجى منها، “إن الناس يجزعون إذا مات جسم عزيز عليهم، ويحزنون ويبكون، وتراهم لا يحركون ساكنا إذا مات قلبه، وانطفأت روحه، وأين يقع موت الأجسام من موت القلوب؟” مصطفى السباعي، هكذا علمتني الحياة، ص: 245.
كثرة الضحك:
يضعف القلب وتذهب مروءة الشخص ويورث الركون إلى الدعة والهزء والاستهتار، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اتَّقِ المحارمَ تكن أعبدَ الناسِ، وارْضَ بما قسم اللهُ لك تكن أغنى الناسِ وأَحْسِنْ الى جارِك تكن مؤمنًا، وَحِبَّ للناسِ ما تُحبُّ لنفسِك تكن مسلمًا، ولا تُكثِرِ الضحكَ، فإنَّ كثرةَ الضحكِ تُميتُ القلبَ، كن ورعًا تكن أعبدَ الناسِ، وكن قنعًا تكن أشكرَ الناسِ وأَحِبَّ للناسِ ما تُحبُّ لنفسِك تكن مؤمنًا، وأحْسِنْ مجاورةَ من جاورَك تكن مسلمًا” الألباني، السلسلة الصحيحة، 930.
وهو نتاج لانشغال العبد بالمتع الزائدة، وثمرة للاهتمام بالأمور التافهة، يُنسي العبد همَّ الآخرة، “بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ” المؤمنون:63، وهذا يناقض الجد في العمل وأخذ المسائل على محمل الالتزام والضبط، وفي القرآن الكريم أمر بالتحلي الحزم والجد، وتحمل المسؤولية في العمل بالأحكام وتبليغ آيات الله، “يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ” المزمل: 1-5، “…وضعف الإرادة والطلب: من ضعف حياة القلب، وكلما كان القلب أتم حياة، كانت همته أعلى وإرادته ومحبته أقوى، فإن الإرادة والمحبة تتبع الشعور بالمراد المحبوب، وسلامة القلب من الآفة التي تحول بينه وبين طلبه وإرادته…” ابن القيم، مدارج السالكين، 248.
وإلقاء الشيء الثقيل يتطلب في الأصل قوة في القلب والجسد معا، لأن قوة القلب صبرا وحزما ورسوخا في الاعتقاد واليقين والتوكل منها تأتي قوة الجسد المتمثلة في التحمل والصبر على الأذى والتعذيب والتنكيل والقتل، “وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ” الأعراف: 145، وكلها صفات من أوصاف أهل العزم من الرسل لصدق توكلهم على الله وصبرهم على تحمل الأذى من أجل الدعوة إلى الله وتبليغ دينه، “فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ۚ بَلَاغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ” الأحقاف: 35.
خواء القلب من القرآن والذكر:
القرآن نور وفي هذا النور الهداية والرشاد، وهو حياة القلوب وربيع الصدور، كالأرض المقفرة التي إذا نزل عليها المطر اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، “أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” الأنعام:122، فمتى افتقد القلب القرآن، أظلم واهترأ وخرِب، وهي صفات موت محقق وعلامات فقدان للحياة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم، “إنَّ الذي ليس في جوفِه شيءٌ من القرآنِ كالبيتِ الْخَرِبِ” سنن الترمذي: 2913، وفي هذا الحديث تعبير عن القلب بالجوف كناية لأنه موضعه ومحله، يصدق هذا الحديث ويتمم معناه قول النبي صلى الله عليه وسلم: “مثلُ الَّذي يذكُرُ ربَّه والَّذي لا يذكُرُ ربَّه مثلُ الحيِّ والميِّتِ” البخاري:6407.
“…حياة القلب بالعلم والإرادة والهمة، والناس إذا شاهدوا ذلك من الرجل قالوا: هو حي القلب، وحياة القلب بدوام الذكر، وترك الذنوب… ” ابن القيم، المصدر السابق.
اغتباط بالمعصية:
ومنه المجاهرة والتباهي بارتكابها، واعتبار ذلك مدعاة للتميز والشهرة والظهور، وقد يكون استمتاعا بإيقاع العباد فيها وجرهم للفتن المحيطة بها والمؤدية إليها، وتسهيل سبل الوصول لارتكابها وتهوين أثرها وأضرارها في الدنيا والآخرة، فلا يتجرأ على ذلك إلى من مات قلبه، وخمدت جذوة الخشية من الله فيه، وتقطعت كل حبال اتصاله بالتقوى، وانسدت كل منافذ الهدى إليه، “…الفرح بالمعصية دليل على شدة الرغبة فيها، والجهل بقدر من عصاه، والجهل بسوء عاقبتها وعظم خطرها، ففرحه بها غطى عليه ذلك كله، وفرحه بها أشد ضررا عليه من مواقعتها، والمؤمن لا تتم له لذة بمعصية أبدا، ولا يكمل بها فرحه، بل لا يباشرها إلا والحزن مخالط لقلبه، ولكن سكر الشهوة يحجبه عن الشعور به، ومتى خلى قلبه من هذا الحزن، واشتدت غبطته وسروره فليتهم إيمانه، وليَبْكِ على موت قلبه، فإنه لو كان حيا لأحزنه ارتكابه للذنب، وغاظه وصعب عليه، ولا يحس القلب بذلك، فحيث لم يحس به فما لجرح بميت إيلام…” ابن القيم، مدارج السالكين: 199.
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:
رأيت الذنوب تميت القلوب ** وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب ** وخير لنفسك عصيانها
اللهم أحي قلوبنا بذكرك وبتلاوة كتابك.
والحمد لله رب العالمين.