“كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان، كان عصر الحكمة, وكان عصر الحماقة، كان عهد الإيمان، وكان عهد الجحود، كان زمن النور، وكان زمن الظلمة، كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط”.
هكذا يفتتح “تشارلز ديكنز” روايته الماتعة “قصة مدينتين” الصادرة سنة 1859، متحدثا عن الثورة الفرنسية، وما اقترفته من جرائم، باسم تحقيق العدالة والمساواة. اختلاط هذه المعاني وهذه القيم والمفاهيم، وضبابيتها، والتباس الحق بالباطل، أثناء الثورة وبعدها، كما عبر عنه صاحب الرواية، سواء في تلك كلمتها الافتتاحية، أو أثناء فصولها، هو حقيقة الثابتة لعلمانية فرنسا منذ ثورتها وإلى الآن، على مدى أزيد من قرنين من الزمان.
مورس الإرهاب في عز نجاح الثورة وشعاراتها الجوفاء المضللة، نفذت الإعدامات الميدانية، وعملية قطع الرؤوس وحملها عاليا على الرماح. واستمرت عمليات قطع الرؤوس إلى أن احتلت فرنسا شمال إفريقيا.
بعد نجاح الثورة بدأ ما سمي بعهد الإرهاب، مخلفا ما لا يقل عن إعدام 16,594 شخص باستخدام المقصلة، بسبب التهم المتعلقة بأنشطة مضادة للثورة.
بعض المؤرخين قالوا بأن حوالي 40,000 سجين أعدموا دون محاكمة، أو ماتوا نتيجة سوء ظروف السجون في انتظار المحاكمة.
تم القضاء على الدين، دمرت الكنائس وذبح رجال الدين، كما منعت المهرجانات الدينية والأعياد، في جميع أنحاء فرنسا، وأعلن البعض عن إعلان «ديانة العقل» لتكون الخطوة الراديكالية الأخيرة ضد الديانة.
لقد مرت الثورة بمراحل، وهي نفس مراحل تطور العلمانية التي بدأت بالمطالبة بإلغاء الدين، لتؤسس على أنقاضه دينا جديدا، بلغ مداه مع “أوغست كونت” مؤسس الفلسفة الوضعية، الذي حولها لديانة جديدة، بكل ما تحمل كلمة ديانة من معنى.
انتبه “أوغست كونت” الذي انتقد الذهن اللاهوتي بشدة، إلى الدور الذي يضطلع به الدين في اللحمة والروابط الاجتماعية، ولاحظ تفكك الروابط القديمة بعد الثورة الفرنسية، وأدرك أن ركاما من الأفراد بدون قيم لا يمكن أن يؤسس مجتمعا، إذ لابد من رابط عضوي يجمعهم، وقيم عليا توحدهم، عوض القيم الدينية التي انتهت مع الثورة، فابتدع ديانته الجديدة سنة 1847، ستحل فيها الإنسانية مكان الإله، والعلم مكان العقيدة، والعلماء مكان رجال الدين، وإلى جانب العلماء يجب تخصيص مكان هام للنساء، لأن العلم والذكاء حسب رأيه لا يكفي لتلاحم الناس، فيلزمهم الحب. وألف بين سنتي 1851 و1854 بحثه في أربعة أجزاء، تحت عنوان (السوسيولوجيا المكونة لديانة الإنسانية)، وفي سنة 1852 كتب (العقيدة الوضعية). وبلغ به الجنون حد إعلان نفسه “الحبر الأسمى للإنسانية”، وكتب إلى قيصر روسيا نيقولا وإلى الصدر الأعظم العثماني يدعوهما للدخول في الديانة الإنسانية.
لا يمكن مقاربة العلمانية الفرنسية، النموذج الملهم لسائر العلمانيات، خاصة في منطقتنا العربية، إلا داخل سياقها وتطوراتها وتحولاتها وإفرازاتها، ولا يمكن الحديث عن العلمانية بمعزل عن الديمقراطية والقيم الغربية المسماة كونية، فهو نظام متكامل عن الإنسان والحياة والكون.
فهل هو نظام لتدبير الاختلاف بين سائر البشر؟ آليات للتعايش والعيش المشترك؟ طريقة للتداول على السلطة بين الطوائف المتنافرة والمختلفة؟
أم هو مجموعة قيم وقناعات ومعتقدات، على الإنسان الإيمان بها واعتناقها كما يعتنق أي دين؟
تدبير للخلاف وآلية للتعايش وطريقة لتداول السلطة بين المنتمين لهذا الدين فقط، ويقصى منه الكافرون به، تماما كما هو في أي دين؟
بعد ماكتبه تشارلز ديكنز في مقدمة روايته، من اضطراب مفاهيمي وسلوكي وممارساتي، إبان الثورة وبعيدها، ومن فصام بين شعارات فرنسا وسياستها، بقي كما قلنا مستمرا، لذلك جيشت جيوشها واحتلت أراض ليست لها وقتلت وأحرقت واغتصبت، وقطعت الرؤوس بطريقة بربرية، وهي لا تحس بأي حرج وتناقض بين أفعالها وشعاراتها، ففي عز الإعلان عن حقوق الإنسان، كانت فرنسا تدك القرى والمداشر وتسحل وتغزو وتنهب وتسرق وتحرق، متنكرة لشعاراتها وفلسفتها، أو ربما منسجمة معها، ونحن لا ندري. وبقيت على هذه السياسة ردحا من الزمن، تتعامل مع غير المعتنقين لديانتها العلمانية، من بلدان وشعوب خارج حدودها، بمنطق الكفار المارقين من دين الأنوار. تغزوهم في عقر ديارهم، لنشر دينها الإنساني، والاستفادة من غنائم الأمم المتخلفة الكافرة بدينها، واستغلال خيراتها ونهب مقدراتها.
لكن أحدا لم يكن يتوقع أن تتعامل فرنسا بهذا المنطق الديني المتعصب، على أراضيها وتعامل مواطنيها بهذا التمييز، بسبب دينهم. حسب عدد من الإحصائيات فإن عدد مسلمي فرنسا يتراوح بين 5 و6 ملايين، ويقدر البعض العدد بأكثر من ذلك. هذا العدد من المسلمين لا تقيم فرنسا لعقيدتهم وزنا ولا تحترم دينهم، وتسمح بالاستهزاء به وبنبيهم، بل تجعل الاستهزاء بنبي المسلمين ودينهم، حقا لا يمكن التنازل عنه لمن أراد ذلك. ويجد مسلمو فرنسا أنفسهم في كل مرة معرضين لقوانين تمييزية عنصرية، كما حدث هذا الصيف، في قضية منع المسلمات دون غيرهن من الاقتراب من الشاطئ بلباسهن الإسلامي، الذي اختاروه بكامل القناعة والحرية والرضى، وتجبرهن على التعري وتكرههن على ذلك.
فهل هو الفصام والنفاق بين الشعار والممارسة؟
أم أننا بقينا عقودا لم نفهم تلك الشعارات التي ترفعها فرنسا وأتباعها في بلداننا؟ ولم ندرك أن تلك الشعارات، خاصة فقط بمن يعتنق دين العلمانية، فهو وحده من ينعم بحريتها المسطرة المرسومة المقيدة.
فهل لقطعة قماش أن تهدد قيم وثقافة ونظام دولة عريقة، الحقيقة أن قطعة القماش تلك عرت هذه الدولة ونظامها وأيديولوجيتها وعقيدتها وفكرها وثقافتها، عرتها لتظهر على حقيقتها دون مواد تجميل. وعرت معها نفاق وكلائها العلمانيين، الذين طالما بشروا بثالوثهم المقدس، “الحرية الإخاء المساواة”، باعتباره أرقى ما وصل إليه العقل البشري، في إدارة الخلاف والعيش المشترك، بعيدا عن تعصب الأديان والقوميات والإثنيات. هذا الثالوث عندهم هو عنوان الانتقال من التطرف والإقصاء وأحادية الرأي، نحو التسامح والعدل، فإذا به خطاب ديماغوجي مورست تحته كل أنواع التطرف والتعصب والإقصاء.
وإذا بفرنسا دولة دينية تعتنق دينا وضعيا، تسهر على حفظه وتطبيقه وإلزام الناس به، شرطة الأخلاق اللادينية، تتجول في الشارع تتربص بثياب الناس تتدخل فيما يلبسون وما لا يلبسون.
وإذا بأذنابها يصفقون لها في كل حركة وسكنة تقوم بها، فيباركون فعلها ونقيضه، لايستطيعون التحرر من اختياراتها واجتهاداتها، فكل ما يصدر من وحي من عندها، فهو قطعي في ثبوته قطعي في دلالته، وجب تطبيقه وتنزيله دون مراعاة لتغير ظرف أو زمان أو مكان، فيقعون فيما ظلوا ينكرونه ويستنكرونه.
في المغرب أطلقت إحدى الملحدات تدوينة دعت فيها لتصفية المسلمين وإبادتهم، وتدوينات أخرى في الاستهزاء بالمسلمين وبدينهم وربهم ونبيهم وقرآنهم وكل مقدساتهم ومعتقداتهم وشعائرهم، ورغم هذه الدعوة الإجرامية الإرهابية، إلا أنها وجدت المساندة من عدد من العلمانيين من دعاة الحداثة والديمقراطية، هذا المثال يساعد على فهم معنى الديمقراطية والمساواة والحرية والعدالة، عند هؤلاء القوم، إنه لا يعني إلا شيئا واحدا، إجبار الناس على اعتناق دين العلمانية، حتى ينعموا بثمارها، ومن لم يدخل في دين العلمانية فليس له إلا التضييق والإقصاء ولم لا القتل والإبادة.