الضلال بعد انكشاف البلاء طارق برغاني

كثير من عباد الله ممن ابتُلوا بمصيبة في الدين أو الصحة أو المال أو الأهل، واشتدت بهم الضوائق وعسرت عليهم المحن، حتى إذا اعترفوا بذنوبهم وظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه، وتضرعوا له بطلب العفو والمغفرة، وخضعوا له برجاء التيسير والرحمة، فاستجاب لهم الله عز وجل، ثم حصل لهم ما يطلبون، وتحقق لهم ما يرجون، وعاشوا في سعة من أمرهم، ولطف في معيشتهم، ونعمة في أبدانهم وأهلهم وأوطانهم، واستكانوا إلى بحبوحة من العيش، ومرت بهم الأيام وتطاول عليهم الأمد، إلا وارتدوا إلى ما كانوا عليه، وعادوا إلى سابق عهدهم، فاستوطنت فيهم المناكر وفشت فيهم الفواحش، واستحكمت فيهم المعاصي، “وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ۖ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ” آل عمران 132-137.
الانتكاسة
وهي الارتداد عن الحق بعدما ظهر وثبتت حجته، وقد ورد اللفظ باشتقاقاته في:
الرأس: “قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ” الأنبياء:62-65، “…أي رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته، المتفطن لصحة حجة خصمه… ثم عادوا إلى جهلهم وعبادتهم…” القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 11/210-211.
وفي القلب: فعن حذيفةَ رضي اللهُ عنه أنه قال: “القلوبُ أربعة: قلبٌ أجردُ فيه سراجٌ مزهرٌ، فذلك قلبُ المؤمنِ وقلبٌ أغلقُ فذلك قلبُ الكافرِ وقلبٌ منكوسٌ فذلك قلبُ المنافقِ، عرف ثمَّ أنكر وأبصر ثمَّ عمِيَ وقلبٌ تمدُّه مادتانِ كمادَّةِ إيمانٍ، ومادةِ نفاقٍ فهو لمَا غلبَ عليه منهما” ابن القيم، إغاثة اللهفان:1/17.
وفي الخلق: “وَمَن نُّعَمِّرْهُ ننْكُسْهُ فِي الْخَلْقِ ۖ أَفَلَا يَعْقِلُونَ” يس: 68، “…(ومن نعمره) فنمد له في العمر (ننكسه في الخلق) نرده إلى مثل حاله في الصبا من الهرم والكبر، وذلك هو النكس في الخلق، فيصير لا يعلم شيئا بعد العلم الذي كان يعلمه… وعن قتادة قوله: (وَمَن نُّعَمِّرْهُ نَنْكسْهُ فِي الْخَلْقِ) يقول: من نمد له في العمر ننكسه في الخلق؛ لكيلا يعلم بعد علم شيئا، يعني الهرم” تفسير الطبري:20/549.
انسلاخ بإيعاز من الشيطان
“وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” الأعراف: 175-176، وقد اختُلِف في الرجل المعني بالآية على أقوال: “قال قتادة: وقال كعب: كان رجلا من أهل البلقاء، وكان يعلم الاسم الأكبر، وكان مقيما ببيت المقدس مع الجبارين… وقال العوفي، عن ابن عباس هو رجل من أهل اليمن، يقال له: بلعم، آتاه الله آياته فتركها…
وقال مالك بن دينار: كان من علماء بني إسرائيل، وكان مجاب الدعوة، يقدمونه في الشدائد، بعثه نبي الله موسى إلى ملك مدين يدعوه إلى الله، فأقطعه وأعطاه، فتبع دينه وترك دين موسى عليه السلام..
وقال شعبة: هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت… وقد روي من غير وجه عنه وهو صحيح إليه، وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة، ولكنه لم ينتفع بعلمه، فإنه أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته، وظهرت لكل من له بصيرة، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه، وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم…
وقد جاء في بعض الأحاديث: أنه ممن آمن لسانه، ولم يؤمن قلبه، “فإن له أشعارا ربانية وحكما وفصاحة، ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام…” ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: 3/508، 509.
وأيا كان هذا الرجل فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
إنكار النعمة
“الإنكار هو الجحود، والمناكرة المحاربة…” اللسان، وكأن العبد يحارب ويرد إنعام الله تعالى عليه وإحسانه إليه بالمنكر والمعصية، وفي ذات السياق جاءت الآيات القرآنية في مواضع منها ما يحمل معاني:
القبح والقدح: “وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ” لقمان: 19، “…أي: أقبح الأصوات لصوت الحمير، أوله زفير، وآخره شهيق…” الطبري: 20/147.
ومنها ما يحمل معاني الأمر العظيم الشديد: “فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا” الكهف:74، “النكر أعظم من الأمر في القبح، وهذا إشارة إلى أن قتل الغلام أقبح من خرق السفينة لأن ذلك ما كان إتلافا للنفس؛ لأنه كان يمكن ألا يحصل الغرق، أما ههنا حصل الإتلاف قطعا؛ فكان أنكر…” فخر الدين الرازي، التفسير الكبير: 133.
ومنها المعاندة والمكابرة: “يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ” النحل:83، “…لأن توليهم عن الإسلام مع وفرة أسباب اتباعه يثير سؤالا في نفس السامع: كيف خفيت عليهم دلائل الإسلام؟ فيجاب بأنهم عرفوا نعمة الله، ولكنهم أعرضوا عنها إنكارا ومكابرة…
والمعنى: هم يعلمون نعمة الله المعدودة عليهم فإنهم منتفعون بها، ومع تحققهم أنها نعمة من الله ينكرونها، أي ينكرون شكرها، فإن النعمة تقتضي أن يشكر المنعم عليه بها من أنعم عليه، فلما عبدوا ما لا ينعم عليهم فكأنهم أنكروها…” الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير: 15/243.
استدراج
ويحمل معنى الاستمالة والدنو: “…واستدرجه، بمعنى أدناه منه على التدريج، فتدرج هو…”، اللسان: 5/239.
وهو إمهال من الله تعالى للعصاة دون إهمال لهم، وهو من قبيل فسح الفرصة لهم للرجوع عن الخطأ والتوبة من الذنب، وقد يعرض الله تعالى لهم علامات وإشارات ليردهم إلى الصواب، لكن إصرارهم واتباعهم مسالك الهوى والضلال يعمي بصيرتهم حتى ينزل بهم البلاء، “فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ” القلم: 44، 45.
“…قال سفيان: نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر. وقال الحسن: كم مستدرج بالإحسان إليه، وكم مفتون بالثناء عليه، وكم مغرور بالستر عليه.
وقال أبو روق: أي كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار.
وقال ابن عباس: سنمكر بهم. وقيل: هو أن نأخذهم قليلا ولا نباغتهم… (وأملي لهم) أمهلهم وأطيل لهم المدة. والملاوة: المدة من الدهر. وأملى الله له أي أطال له…” القرطبي، الجامع لأحكام القرآن.
اللهم إنا نسألك الثبات على الدين والحفظ من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *