مهلا سعاة الفتنة… دعاة بدعة الجرح والتجريح (الحلقة:3) ذ: حسان بوقدون

إذا كان المرء جاهلا ولا يعقل إلا بقلب غيره كما هو الحال بالنسبة لأصحابنا الجراحين؛ فلا غرابة بعد ذلك إن رأيت منهم غيرها من صفات الذم وأخلاق السوء، لأن هذه السيمى -سيمى الجهل- أصل كل شر وأساسه، وإليك أيها القارئ الكريم صفة أخرى من الصفات التي يحملها الجراحون وهي أيضا من الأسباب التي دفعتهم إلى ابتداع بدعة الجرح 1والتجريح :
ثانيا: الرياسة وحب الظهور
تماما على الذي تقدم وتفصيلا له من الحديث عن الأسباب التي حملت أصحاب الجرح والتجريح إلى هذه البدعة، أقول: إن داء الرياسة وحب الظهور داء يتصدر قائمة الأدواء التي ابتلي بها الجراحون؛ وخاصة الذين تولوا كبر هذه الفتنة ونفخوا في كيرها ممن يلقبونهم بالعلماء الكبار، فإنهم يتمنون لو أن كلمة الأمر والنهي من اختصاصهم وليس منها لأحد من المسلمين شيء، ويطيع المسلمون -أجمعون أبتعون أكتعون- أمرهم ولا يسمعون لأحد غيرهم، وكأن الله أوحى إليهم أن جعلت في أيديكم الوصاية على المسلمين؛ فنصبوا أنفسهم لذلك.
ويدلك على هذا أن هذه النابتة ما خرجت علينا بهذه الفتنة إلا يوم أن خلا الميدان من فرسان يقودون الأمة ويأخذون بخزائم أبنائها إلى بر الأمان، وذلك عندما مات شيوخ الإسلام والمسلمين عبد الله بن عبد العزيز بن باز ومحمد ناصر الدين الألباني ومحمد بن صالح العثيمين رحمة الله عليهم، فإن هؤلاء السادة كانوا أئمة يقودون الأمة، فلما ماتوا فكأنما انطفأ ذلك النور الذي تستضيء به الدنيا كلها مشرقا ومغربا، وحينها أمكن لهؤلاء الخفافيش أن يخرجوا علينا بهذه الفتنة، فأرادوا ببدعة التجريح أن يحلوا محلهم في هذه القيادة، ولم يعلموا -أو لم يريدوا أن يعلموا- أن هؤلاء الأئمة وأمثالهم عبر تاريخ الإسلام الطويل إنما وجبت لهم هذه المنزلة بالعلم والتقوى والزهد والصلاح والرحمة بالخلق وحب الخير للناس أجمعين مؤمنهم وكافرهم، هذا بعد عناء وصبر وتوفيق من الله تعالى، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا 2بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}السجدة:24، ومع ذلك فإنهم والله لا يحبون هذه الشهرة والظهور كما هو حال أصحابنا الجراحين .
وعندي أنه لو كان واحد من أئمة المسلمين المجتهدين؛ -أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو ابن حنبل أو من في طبقتهم ممن أجمع المسلمون على إمامتهم- حيا في عصرنا هذا لرماه هؤلاء المغرورون بألسنة حداد أشحة على الخير وحرصا على الرياسة والشهرة، وحسدا من عند أنفسهم لعباد الله على ما آتاهم من الفضل والقبول في الأرض وانتشار الذكر والتفاف الطلاب حولهم…، {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ}.
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم
ثم إن هذا الداء أخذ يستشري في أبناء هذه الطائفة شيئا فشيئا حتى دب مرض الجرح والتجريح إلى الجميع اتباعا وطاعة لسادتهم وكبرائهم {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}3 ، فتجد الواحد من هؤلاء الهوام المتعالمين لما يحسن بعد قراءة الفاتحة سليمة من اللحن قد نفخ الشيطان في أذنيه حتى أوقفه على أرنبة أنفه يتكلم في العلماء والدعاة 4المصلحين، وكأنه ممن قال الله لهم من أهل بدر: “اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم”، نعوذ بك اللهم من طمس البصيرة .
إن الشقي بالشقاء مولع لا يملك الرد له إذا أتى
ويا ليتهم يتكلمون في عامة المسلمين فيخفف عنهم الإثم وتلتمس لهم الأعذار؛ ولكنهم نصبوا سهام الوقيعة إلى نخبة المسلمين وخيارهم من العلماء والدعاة المصلحين، وربما تكلموا في أناس لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة منذ أزمان تصلهم حسنات الأشقياء -إن كانت لهم- بالجملة، وكأني بأبي القاسم ابن عساكر رحمه الله ما قال قولته الشهيرة في التحذير من الوقيعة في العلماء إلا نصيحة لهؤلاء الجراحين وتحذيرا لهم، فتولى التاريخ حفظها حتى خلقوا لها، فقال رحمه الله:
“واعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء رحمة الله عليهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور 5والافتراء مرتع وخيم، والاختلاق على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم” .
ومن قبل ومن بعد فإن نبينا عليه الصلاة والسلام نهى عموم أبناء أمته عن هذه الكبيرة وحذرهم من حصائد ألسنتهم، فقال: «كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه؛ حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم»، وقال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، وقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت». والنصوص في هذا الباب مما لا يعد ولا يحصى كثرة، يعلمها الجراحون ولكنهم لا يعملون بها، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
وإن تعجب فعجب أن يعتنق هذا المذهب الجديد 6 – مذهب الوقيعة في العلماء والدعاة- سفلة من الناس لا علم عندهم ولا أدب ولا خلق، وغاية ما يحسنونه الطعن في العلماء وتجريحهم طاعة لإخوانهم الذين يمدونهم في الغي كما أسلفت، وتقليدا لعلماء المسلمين المعروفين بنصرة السنة وإخماد نار البدعة كشيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ تقي الدين الهلالي من المعاصرين وغيرهم، فإنهم يحسبون أنفسهم في منزلة هؤلاء الأئمة، ولا يعلمون أن أصل دعوة أولئك الأئمة هو الرفق واللين والرحمة بالخلق والتماس الأعذار لهم، وما نقل عنهم من مواقف الصرامة والشدة أحوال لا يقاس عليها، هذا مع توافر العلم الغزير وسلامة المقصد وكونهم في مواطن القدوة التي يلزمهم فيها ذلك.
ولقد بلغت بهم الوقاحة منتهاها فنسبوا بدعتهم هذه وسوء فعلتهم إلى السنة والسلفية زورا وبهتانا؛ شهادة ستكتب عليهم ويسألون عنها يوم القيامة، ويأبى الله إلا أن يبرئ سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهج السلف الصالح؛ من كل قول أو فعل طالح، ولهذا تجدهم يتدثرون بعبارات ظاهرها الغيرة على الإسلام والسنة وباطنها السم الزعاف، فتسمع الواحد منهم مثلا يقول: نفعل هذا نصرة للسنة، ونقوم بهذا إماتة للبدع…، ولعمري ما في الدنيا بدعة أكبر من رأسه.
إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستحي فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في الدين خير ولا الدنيا إذا ذهب الحيـــــاء
أصحابنا الجراحون يظنون أن لا أحد على وجه الأرض أفضل منهم وأحسن علما وعملا وإيمانا وخلقا و…، وكل ذلك من أعراض داء الرياسة، وهذا والله ضرب من ضروب الهذيان أصبحت معه أنفسهم تكذب عليهم ويصدقونها كما يحكى عن جحا رحمه الله أنه: كان صبية يلعبون قريبا من باب داره فلما لم يتركوه يستريح، قال: إذاً أدبر حيلة أبعدهم بها عن داري، فخرج إليهم فقال: ألم تعلموا أن بدار فلان عرسا يطعم الناس ويسقيهم؟ فما إن سمع الصبية كلامه حتى هرولوا جميعا نحو الدار التي ذكر لهم، فلما رآهم قد انطلقوا إلى ما قال لهم، قال: لعلي صدقت فيما قلت لهم فتبعهم هو الآخر مهرولا ورآهم.
ثم إن هؤلاء البغاة المتطاولين على العلماء والمصلحين بألسنتهم الطويلة العريضة الغليظة إنما لبس عليهم إبليس وصدق عليهم ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين، ولو أن الحافظ ابن الجوزي رحمه الله في عصرنا هذا ما وسعه إلا أن يعقد لهم بابا خاصا في كتابه الحافل الماتع: “تلبيس إبليس”، يكشف لنا فيه كيف لبس عليهم اللعين.
وللإشارة فإن فتنة الجرح والتجريح التي أيقظها هؤلاء الفتانون المفتنون فتنة قديمة، فقد سجل لنا التاريخ أن الطعن في حملة الشريعة بدأ بالطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاولة إسقاط عدالتهم7 ، ولا غرو متى سقط حملة الشريعة من عيون المسلمين تسقط منها الشريعة جملة وتفصيلا، وذلك أن القدح بالحامل يفضي إلى القدح بما يحمله من رسالة البلاغ في دين الله وشرعه، وعليه فإني لا أستبعد أن تكون من وراء هذه الفتنة المسعورة أيد خفية لأعداء الإسلام والمسلمين من حيث يشعر أو لا يشعر هؤلاء الأغبياء الذين يحملون لواء نشرها في كل مكان.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
—————
1 – هذه المقالات التي نكتبها عن أصحاب بدعة الجرح والتجريح، قد يرى البعض أننا نحيد في كتابتها أحيانا عن المسلك العلمي إلى مسلك آخر ممزوج بشيء من التهكم المباح، والسبب في ذلك أن أصحابنا ليسوا ممن يرعوي لا بالعلم ولا بالذكرى، لأنهم يحسبون أن العلم كله قد انتهى إليهم، فلا يحتاجون بعد إلى من يرشدهم أو يبين لهم أيا كان، ثم إن هذا المسلك الذي سلكناه من جنس فعلهم في رمي العلماء والدعاة بالتهم الجاهزة مع أننا لا نتكلم إلا بما فيهم، ولهذا اخترنا هذا المسلك حتى لا تجر أفراس هذه البدعة في غير مغير ملء أعنتها إلى ما لا تحمد عقباه.
2 – ولا يفهمن فاهم من هذا الكلام أننا نقول: إن الدنيا خالية من العلماء بعد هؤلاء الأئمة؛ أو إن العلم في عصرنا ليس إلا لهؤلاء الثلاثة، حاشا وكلا، فلولا ما نعلم من كراهة العلماء لذكرهم والثناء عليهم لذكرنا لك منهم العشرات، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.
3 – فإذا سألت الواحد منهم مثلا: لم تتكلم في الشيخ الفلاني؟ يجيبك على البديهة: لأنه تكلم فيه الشيخ فلان، وكأن شيوخهم الذين ينقلون عنهم ملائكة يمشون في الأرض، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون:
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام
4 – ومنهم من لو خيرته بين أن يكتب لك حرف الواو سليما أو يصنع لك مغرافا من الخشب لاختار الثاني، لأن المسكين لم يحمل قط اللوح الذي يتعلم فيه الصبيان الحروف ولا رآه.
5 – تبيين كذب المفتري؛ ص: 29.
6- وأغرب شيء في هذا المذهب الجديد أنهم ينسبون دعوتهم الضالة وبدعتهم هذه إلى بعض المشايخ والعلماء الذين يردون عليهم كالشيخ عبد المحسن العباد الذي صنف رسالة في ذلك سماها: “رفقا أهل السنة بأهل السنة” ذكر فيها أن من جملة من تولى كبر هذه الفتنة بعض طلبته البلداء في الجامعة الإسلامية الفاشلين في العلم والتحصيل، ومن هؤلاء المشايخ الشيخ علي فركوس بالجزائر الذي ما علمنا أنه تكلم في أحد من المسلمين فضلا عن علمائهم ودعاتهم السنيين فإنهم ينتسبون إليه وهو منهم بريء براءة الذئب من دم يوسف، أما من أوهموهم من أهل العلم بطريق المكالمات الهاتفية حتى تكلموا في غيرهم فما لا يعد كثرة.
7 – وقد أشهد الله سبحانه وتعالى التاريخ على كل من تكلم في الصحابة بل وفي غيرهم من أئمة المسلمين بعدهم على أنه مبتدع، وسيشهده إن شاء تعالى مرة أخرى على هؤلاء الفتانين على أنهم مبتدعة، وسيأتي يوم يذكرهم الناس بهذه النحلة السيئة، ولقد بدأت بوادر ذلك تظهر ولما يمضي على فتنتهم هذه عقدان صحيحان بعد، فأصبحنا نسمع ألقابا وأسماء لهذه الطائفة، لعل أطرفها: الطائفة العندكية أو العندكيون، وكما قيل: الليالي حبالى يلدن كل غريب. نعوذ بالله من سوء المنقلب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *