برجوعنا إلى سياق الحديث الذي يكثر حوله اللغط من بعض القوم، وكما هو مبثوث في صحيح البخاري، عن أبي بَـكْرَة -رضي الله عنه- قال: لما بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملَّكوا عليهم بنت كسرى، قال: (لن يُفلح قومٌ ولَّوا أمرَهم امرأة).
وقد وردت لهذا الحديث روايات متعددة، منها: (لن يفلح قوم تملكهم امرأة)([1])، و(لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة)([2])، و(لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة)([3]).
وللإشارة هنا، ومن باب الأمانة العلمية أن الحديث تناوله وناقشه كثير من العلماء وذوي الفكر السديد والرأي الرشيد قديماً وحديثاً، ولا زال محط دراسات إلى يومنا هذا، ومع ذلك فلا بأس بالرجوع إلى بعض المصادر الموثوقة لنفحم هؤلاء القوم الصرعى الذين لا يفقهون حديثاً ولا قرآناُ، اللهم إلا حديث التلبيس والتشكيك والتشهير والتشويش الفكري، دون أدوات علمية أو ضوابط منهجية رصينة.
وخلاصة ما أجمعوا عليه في هذه القضية: أن المرأة ليست من أهل الولاية العامة للمسلمين، ولا تصلح للحكم أو السلطة العليا في البلد، على اختلاف فيما بينهم بخصوص ولاية القضاء وبعض المناصب الصغرى، ولا يهمّنا هنا صوت القلة، فنحن لا ننظر فيمن شذّ أو اجتهد خارج السياق لسبب من الأسباب، والذي يهمنا أن الأمة لا تجتمع على ضلالة كما هو وارد في كثير من الأحاديث النبوية الصريحة الصحيحة. وهذه إشارات موجزة -حسبما يسمح به مقام الكلام- أنقلها تباعاً من باب التوضيح وتثبيت الحجة، مع العلم أن التاريخ الإسلامي لم يشهد في قرونه الأولى تولية للنساء، ولم يتم تنصيب ولو امرأة واحدة في سُدّة الحكم أو الوزارة أو المناصب العليا الحساسة في دواليب الدولة الإسلامية.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله بخصوص شرح هذا الحديث: (فيه دليل على أن المرأة ليست من أهل الولايات، ولا يحل لقوم توليتها؛ لأنه يجب عليهم اجتناب ما يوقعهم في عدم الفلاح)([4]) انتهى بتصرف.
وقال الماوردي -رحمه الله- في معرض كلامه عن الوزارة: (ولا يجوز أن تقوم بذلك امرأة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أفلح قومٌ أسندوا أمرهم إلى امرأة)؛ ولأن فيها من طلب الرأي وثبات العزم ما تضعف عنه النساء، ومن الظهور في مباشرة الأمور ما هو عليهن محظور)([5]).
وقال ابن حزم -رحمه الله- في معرض حديثه عن الخلافة: (ولا خلاف بين أحدٍ في أنها لا تجوز لامرأة)([6]).
وورد في “الموسوعة الفقهية” الكويتية (وهي عمل فقهي علمي جماعي ضخم): (اتفق الفقهاء على أن من شروط الإمام الأعظم أن يكون ذكرًا، فلا تصح ولاية امرأة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة)، ولكي يتمكن من مخالطة الرجال، ويتفرغ لتصريف شئون الحكم؛ ولأن هذا المنصب تناط به أعمال خطيرة، وأعباء جسيمة، تلائم الذكورة)([7]).
فالذي يستفاد من حديث: (لن يفلح قوم…): أنه ينصرف إلى الإمامة العظمى التي يختص بها الرجال دون النساء؛ نظرًا لطبيعة المهام المنوطة بالخليفة؛ من أمر إمامة الصلاة والجهاد ونحوها، وهو ما لا يلزم المرأة إلا في حدود وظروف معينة.
وليس هناك ما يمنع من توليها بقية الولايات مع شيء من الخلاف في ذلك خاصة في منصب الوزارة والقضاء، ولكن الأمر يترجح لصالحها في الغالب.
وأكتفي بإيراد هذه النصوص الصريحة دون إضافة أو تعليق، ولو قرأ هؤلاء القوم في هذا الجانب لوجدوا الحق قوياً ساطعا، لكنهم دائمًا يبحثون عن القشور في كلام أهل الهوى والشبهات، ويزينونه على طبق من فضة، ويبسطون له الموائد والمأدبات، وينفخون فيه نفخاً، وهذا ديدن كل من أعمت قلبه الشبهات والضلالات.
—————————-
-[1] أخرجه أحمد في المسند، مسند الكوفيين، حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة رضي الله عنه (20536)، وابن حبان في صحيحه، كتاب السير، باب في الخلافة والإمارة (4516)، وصححه الأرنؤوط في تعليقات مسند أحمد (20536).
-[2] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى وقيصر (4163)، وفي موضع آخر.
-[3] هذه رواية من طريق أحمد عن أبي بكرة. انظر: كشف الخفاء ومزيل الإلباس، للعجلوني الجراحي، ج 2 ص 176.
-[4] ذكر ذلك في كتابه: “نيل الأوطار”، ج 8 ص 305.
-[5] الأحكام السلطانية، ص 46.
-[6] الملل والأهواء والنحل، ج 4 ص 129.
-[7] انظر: ج 21 ص 270.