جدل مدونة الأسرة.. كيف يتم استبدال الشريعة الإسلامية بالقوانين الفرنسية العلمانية؟؟

يستشهد كل من يدعو إلى تبني مقتضيات المفاهيم الغربية للحريات الفردية بالتطور الاجتماعي الهائل الذي يعرفه المجتمع المغربي “المنفتح”، ويرى “المناضلون” و”المناضلات” من المعسكر العلماني أن الفهم “المتشدد” للنصوص الدينية والأحكام الشرعية هو أكبر عائق أمام الانضباط التام بمقتضيات حقوق الإنسان بمفهومها الغربي -الذي يدَّعون له الصفة الكونية-، الأمر الذي يحول دون الانتقال إلى نظام ديمقراطي حداثي بالكامل.
لذا فهُم يحاربون في إطار نضالهم “الحقوقي” و”السياسي” و”الفكري” جميع التوجهات والتيارات الإسلامية، وجميع الأفكار والمفاهيم التي تزاحم عملهم داخل “الحقل السياسي” أو الحزبي أو الثقافي، أو الإعلامي بل بعضهم ينتقد التيار المحافظ داخل القصر والذي يمثله بقايا فقهاء وعلماء وبعض مستشاري العهد الحسني والذين وقفت غالبيتهم في وجه ما جاءت به خطة إدماج المرأة في التنمية، وأجمعوا على التصدي لانحرافات الخطة المذكورة مؤيدين وداعين لمسيرة واحدة مع التيارات الإسلامية.
والمتابع لما يجري على الساحات العلمية والفكرية والإعلامية والتعليمية، يلحظ بسهولة هذه الحرب الدائمة على المفاهيم الشرعية وأحكام شريعة الإسلام.
وآخر معارك هذه الحرب الطويلة؛ كانت نهايةَ الأسبوع الماضي، في ندوة وطنية، نظمها “اتحاد العمل النسائي”، وذلك من أجل انتقاد المدونة، تحت شعار “من أجل قانون أسري يضمن الملاءمة والمساواة”، وَمِمّا صرحت به الحقوقيات المشاركات في الندوة، دعوتُهن إلى “ضرورة تجاوز ازدواجية التشريع في مدونة الأسرة، معتبرات أن هذه المدونة القانونية، التي تمس نواة المجتمع، تتخبط بين التشريع الإسلامي، والقانون الوضعي، ومبادئ الإنصاف والمساواة”.
الحقوقيات والحقوقيون ومِن ورائهم الأحزابُ العلمانية والإعلام العلماني، جميعهم يقرون بالتخبط في مجال سن القوانين عامة، بين التشريع الإسلامي والقانون الوضعي، وهذه معضلة حقيقة لدى العلمانيين.
لكن السؤال ليس صدقية التخبط وازدواجية المرجعية بل السؤال هو: لصالح مَن يجب أن يحسم هذا التخبط وهذا التناقض التشريعي؟؟
ألصالح التشريع الإسلامي أم القانون الوضعي؟؟
بالنسبة للعلمانيين جميعا يجب الانتصار للمرجعية الحقوقية الدولية ولا قيمة لمخالفتها للمرجعية الإسلامية التشريعية.
ونتساءل: لماذا هناك فصل صارم في تحديد المرجعية التي ينبغي التحاكم إليها حتى نتجاوز التخبط؟؟
أليسوا دعاة حوار، ويحاربون الوثوقية والحقائق المطلقة؟
لماذا لا يُفتح بتاتا نقاش جاد وبكل حرية بين المرجعية الإسلامية التشريعية، والمرجعية التي يسميها العلمانيون كونية؟؟
أليس هذا استسلام كامل لسلطة الثقافة الغالبة التي تفرض رؤيتها على الشعوب الإسلامية منذ أكثر من قرنين؟؟
دعونا الآن نسلط الضوء على مراحل التطور المجتمعي باختصارٍ؛ وأرجو ألا يكون مخلا بالمقصود:
فقبل دخول الاحتلال العلماني الفرنسي، كان المغاربة لا يعرفون مصدرا للتشريع والفتوى سوى الشريعة الإسلامية والمذهب المالكي، وذلك منذ كان المغرب دولة، حتى إنّ كتب التاريخ وشواهده تثبت لنا أن العلماء في مراكش وفاس عزلوا السلطان مولاي عبد العزيز، لأنه سن قوانين مخالفة للشريعة الإسلامية، عملا بإصلاحات أوعز إليه بها نخبة من الإنجليز، ومنها فرضه للضريبة التي كانت تسمى الترتيب بدل العمل بتشريع الزكاة الإسلامي وأنصبتها.
بعد بضع سنوات من هذا الحدث الكبير ستتمكن فرنسا من فرض الحماية على المغرب؛ في سياقات نظام دولي جديد تَشَكّل بعد ثورات أوربا على دينها وكنائسها.
فأخذت فرنسا على عاتقها تطوير المجتمع المغربي حتى تَخلُد فيه وتلحقه بالإمبراطورية الفرنسية “الرومانية” التي كان يحلم بها المرشال ليوطي، وذلك من خلال آليات كثيرة يهمنا منها:
– محاربة الشريعة الإسلامية ومزاحمتها شيئا فشيئا حتى تندثر من الوجود وبالمقابل إرساء منظومة تشريعية متكاملة مستمدة من القوانين الفرنسية.
ونستدعي هنا من غياهب التاريخ نصا لكلام بليغ لأحد أبرز منظري الاحتلال الفرنسي وهو قانونيٌّ كبير من دهاقنتهم، كان يرسم الخطط ويدرس النخب، ويباشر التنفيذ على أرض الواقع، وهو جورج سوردون الذي جلس مرة (1) “يتحدث إلى جمهور كبير من الضباط ورجال الاستعلامات الفرنسية، وكان على رأس الحاضرين المقيم العام لوسيان سان؛ وكان ذلك بمدرسة اللهجات البربرية التي يطلق عليها اليوم(2) معهد الدراسات العليا بالرباط(3) بتاريخ ‏21 يونيو 1929.
فمن جملة ما قاله في محاضرته الطويلة: “…إننا نحن الفرنسيين لا نجبر الشعوب التي فتحناها على الإذعان لنا والاندماج فينا مرة وبالقوة! وإنما نُؤمِّل أن نرى هذه الشعوب تندمج من نفسها في العائلة الفرنسية. وأن الاندماج من طريق القانون مفيد جدا في نظري، ‏فكلما تقربت القوانين المحلية (الأهلية) من قوانيننا نتجه نحو اندماج الأجناس، الذي هو وحده وسيلتنا للمحافظة على الأمن وأساس طمأنينتنا وخلودنا؛ وليس علينا إلا الشروع في العمل بعزيمة وثبات، ‏فلتكن لدينا عزيمة صادقة على تخليد عائلتنا، ولنُعْمِل كلَّ الوسائل لبلوغ هذه الغاية”.
عبارات سوردون العميقة الدلالة والغزيرة المعاني والمتعددة الأبعاد، خصوصا إذا استحضرنا السياق التاريخي وهوية المتكلم ومكانته.
نلاحظ كيف يسمي الاحتلال الدموي فتحا، ولا أحد يقول له اليوم أنه كان إرهابا رغم الملايين من ضحاياه ويُؤمِّل مع ذلك أن يرى هذه الشعوب تندمج من نفسها في العائلة الفرنسية.
وهل يمكنها أن تندمج من نفسها إذا لم يتم تطويرها تطويرا قسريا وبالقوة الخشنة والناعمة؟؟
ولماذا إذًا احتاجت فرنسا إلى كل المعارك الدموية التي خاضتها ضد القبائل في الأطلس والأرياف التي لم توضع أسلحة الجهاد والمقاومة فيها سوى بعد 1934؟؟
لكن سوردون يتكلم بعد استسلام أغلب القبائل والمجاهدين، لذا فهو يقصد بالاندماج هنا التطوير الاجتماعي التدريجي بعد التركيع ونزع أسلحة المقاومة، والذي لن يحصل بدون العمل على تفتيت البنيات العقدية والاجتماعية والسياسية والثقافية للشعب المغربي وتغيير عاداته وأعرافه، وصناعة نخبة من المغاربة يسرِّعون وتيرة التطوير القسري في مختلف المجالات ومنهم أغلب العلمانيين.
لكن الخطير في خطة سوردون هو ما أسماه الاندماج من طريق القانون وهو في نظره مفيد جدا، ‏”فكلما تقربت القوانين المحلية (الأهلية) من قوانيننا نتجه نحو اندماج الأجناس”.
فبعد الفتح والتركيع والتطوير يأتي التشريع؛ فالقاعدة عنده أنه كلما تقاربت التشريعات المغربية من التشريعات الفرنسية إلا وكان الاندماج كليا بين الأجناس، أي الجنس الفرنسي والجنس المغربي.
الآن نخرج من التاريخ ونستصحب خطة سوردون وضباطه ولنرجع للحقوقيات اللائي نَبَّهن إلى التناقض الذي يعتري مدونة الأسرة، الحاصل بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، ولنتذكر تصريحات عيوش وأوجار ولشگر وعصيد والرياضي والصبار والديالمي وغيرهم من العلمانيين، ولنستحضر الجدل الذي يديرونه على الدوام من خلال جمعياتهم وأحزابهم ومنظماتهم، حول قطعيات النصوص الشرعية المنظمة للإرث، وكذا الجدل الذي يثيرونه حول اللواط والسحاق، ومطالِبهم بخصوص ملفات حرية الاعتقاد، والتي تشمل في نظرهم حرية الإلحاد، والإفصاح عن الكفر بالله تعالى بل دعوة المسلمين إلى الإلحاد والتنصر، وأضف إلى ذلك ملفات الحرية الجنسية والحرية في الجسد، ورفع العقوبات عن تناول الخمور والمخدرات وبيعها، وإلغاء الفصول الجنائية المجرمة للزنا، وتوسيع دائرة الإجهاض وغيرها كثير.
أليست كل هذه المطالب لها قوانين في فرنسا تنظمها وفق حقوق الإنسان بالمفهوم الغربي والتي أعلنتها عقب ثورتها على الدين؟؟
ألا يعيش المغرب تحت ضغط مستمر تمارسه فرنسا والاتحاد الأوربي وأمريكا من خلال منظماتهم على الحكومة المغربية والشعب، في تقاريرهم وشروط منحهم وقروضهم، وتوصيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ضغوط تلو الضغوط حتى يمتثل المغرب لكل وليس بعض القوانين الغربية لكي يستكمل تفاصيل الاندماج الكلي لشعبه في شعوبهم.
ومن ثَمَّ، هل ستخرج مطالبُ العلمانيين واقتراحاتهم ومشاريع القوانين التي يقدمونها بخصوص الملفات التي يناضلون من أجلها، عن دائرة قوانين فرنسا المتماهية مع حقوق الإنسان والأوفاق الدولية؟؟
تاريخيا كانت كل القوانين التي تسنها فرنسا وتخالف الشريعة الإسلامية يحكم عليها العلماء بالخروج عن الملة، لهذا كانت الأمة المغربية تستنكرها وتحاربها، وكانت مطالب العلماء مباشرة بعد الاستقلال تؤكد على استئناف العمل بالشريعة الإسلامية.
وبالفعل أحدثت لجنة تشريعية لملاءمة المنظومة القانونية التي خلفها الاحتلال الفرنسي العلماني مع مقتضيات الشريعة والمذهب المالكي، وأجهض عمل اللجنة حيث لم تستطع سوى إخراج قانون الأحوال الشخصية والذي صار اسمه مدونة الأسرة، وحتى مدونة الأسرة هذه لا زالت تهذب وتشذب حتى تتلاءم تماما مع قوانين نابوليون وليوطي وسوردون، بدعوى التطور الاجتماعي وتجاوز التناقض الحاصل على مستوى مرجعية التشريع.
ولعل السبب الذي أَجهَض عمل اللجنة – باختصار فالموضوع طويل وقد أطلت كثيرا- يكمن في طبيعة استقلال المغرب الذي كان نتيجة مشاورات إيكس ليبان، فقد كان استقلالا توافقيا مشروطا بين المغرب وفرنسا، وأهم شرط كان فيه هو الحفاظ على مصالح فرنسا في المغرب، لهذا بقينا مرتهنين للفرنسية لغة وللفرنسيين تعليما وثقافة وسياسة وتشريعا.
فهل سنحسم في اختلاف المرجعية التشريعية بخصوص المدونة أو غيرها من الملفات المفتوحة بالرجوع إلى المرجعية التشريعية الإسلامية؟؟
أم أننا سنبقى نعاني آثار هذا الإلحاق الحضاري والثقافي بالغرب؟؟
وهل يمكن والحالة هذه أن ندفع في وجه المخالف بوجوب احترام المذهب المالكي وثوابت البلاد إذا لم يبق لها وجود في تنظيم الشأن العام؟؟
وهل المذهب المالكي مجرد نصوص ميتة مستسلمة للواقع وتنحسر كلما اتسع نفوذ العلمانية؟؟
وهل يمكن أن نتحدث في هكذا واقع عن معنى لحماية الملة والدين؟؟
فإذا كان الدستور ينص على شيء اسمه حقوق الإنسان، فهو كذلك ينص على حماية الملة والدين، ويحدد دين الدولة بوصفها كائنا سياسيا في دين الإسلام، أوَليس الإسلام كاملا عقيدة وشريعة وسلوكا؟؟
فلماذا نرى تمددا مضطردا واكتساحا مستمرا للتشريعات ذات الامتداد الفرنسي على حساب ما تبقى من التشريعات الإسلامية في قوانين البلاد؟؟
ثم في الأخير نُسائل مؤسساتنا العُلمائية الدستورية وما تفرع عنها وهي المنوطة بها حماية الملة والدين -مع كامل الاحترام والتوقير-: لماذا لا أثر سياسيا وتشريعيا لها على أرض الواقع؟؟
أليس هذا فصلا تاما للدين عن السلطةِ وتدبيرِ الشأن العام؟؟
الأحوال تؤذن بخراب الأسر والمجتمع؟؟
فأي إسلام على مستوى الدولة بقي سوى إسلام طقوس لا يمنع بحال الاندماج الكلي بين الأجناس المغربية المسلمة والأجناس الفرنسية العلمانية على حد تعبير سوردون؟؟
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
إبراهيم الطالب
——————
(1) المكي الناصري؛ فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى ط2 ص80-81
(2)أي في سنة 1932.
(3) كلية الآداب بالرباط قرب باب الرواح حاليا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *